صار تحليل أداء الحكام والحديث عنهم أمرا مملا حقا. فمع تكرار أخطائهم وأحيانا كوارثهم يصبح الحديث ضروريا، ولكن الملل يحل باستماعك لاسطوانة معادة تحمل أحد رأيين لا ثالث لهما: الهجوم الضاري باعتبارهم متحيزين وغير محل ثقة أو الدفاع المستميت تحت راية "الأخطاء البشرية". والخطان غير مقنعين على الإطلاق. فلا يمكن أن يكون جميع الحكام المصريين أو حتى أغلبهم موجهين وبلا ضمير، ينصتون إلى صوت جمهور فريق يشجعونه أو تعليمات مشبوهة بدلا من الاستماع إلى صوت الحق والعدل وشرف المهنة. ولا يمكنك أيضا وأنت مشجع متحمس أن تتحمل كثيرا حجة الأخطاء البشرية هذه، لأنها تؤثر عليك وعلى فريقك، وعلى لاعبيك وآمالهم في الحصول على لقب أو الهروب من المظاليم أو المشاركة الإفريقية. وقد يتسع صدر عناصر اللعبة الأخرى لتقبل الخطأ مرة أو مرتين، ولكن ليس للأبد. الحقيقة الواضحة أن الحكام المصريين لا يمتلكون الكفاءة الفنية واللياقة البدنية والقدرة الذهنية التي تتيح لهم إدارة مباريات الدوري الممتاز متزايد القوة، ولن يستطيعون أيضا الوصول إلى الدرجة المطلوبة كي يديرون هذه اللقاءات في القريب العاجل. وقد حاولت التعرف على العملية التي يتم من خلالها تدريب وإخراج الحكام الأوروبيين إلى النور، ومقارنتها بالخطوات التي يمر بها نظرائهم المصريين، لتحديد الفارق الفني والبدني، وفهم ما الذي ينقصنا كي يكون لدينا حكما يستطيع إدارة مباراة حساسة في الدوري الممتاز بلا كوارث. ولجأت إلى زميلنا شادي أمير، وهو من المولعين بالدوري الألماني وكل ما يمت للعبة بصلة في بلاد الماكينات، لأجد إدارة التحكيم هناك تشبه "خط إنتاج" في مصنع يستخدم التكنولوجيا الحديثة ويقدم منتجات عالية الجودة، فيما يخرج المنتج المصري من ورشة عتيقة في شارع جانبي بعد عمل غير دقيق. فبحسب أخر إحصائيات الرسمية، هناك 80 ألف حكما مسجلا في الاتحاد الألماني لكرة القدم، يديرون نحو 100 ألف لقاء أسبوعيا، من أول مباريات الأطفال والهواة، مرورا بالدرجات المختلفة للمسابقات، وحتى أعنف مواجهات البوندزليجا. ويتدرج الحكم الألماني منذ دخوله سلك التحكيم في عشرة مستويات، أولهم المبتدئ وأخرهم الدولي، ويتعين على هؤلاء جميعهم الانتظام في دورتين كل عام، تأخذ كل منهما وقتا يتراوح بين 20 و50 ساعة، ويجب عليه اجتيازهما بنجاح حتى يواصل مشواره التحكيمي. ويحصل الحكم الألماني على أجرا لكل مباراة يبدأ ب25 يورو للقاءات الأطفال، ويصل إلى 4 آلاف يورو لمباريات الدوري الممتاز، يضاف إليهم 500 يورو من الراعي الرسمي للحكام (نعم في ألمانيا هناك راعيا رسميا للتحكيم فقط!) ولا يشترط في الحكم أن يكون لاعبا سابقا، بل تستطيع أن تبدأ مشوارك مع التحكيم مبكرا، لأنك ستخوض عملية غربلة واسعة حينما تصل إلى 25 عاما، وهو السن الذي يتم فيه استبعاد أي حكم لم يصل إلى المستوى الذي يؤهله لإدارة مباريات الدرجة الثالثة.
الحكم المصري لا يعرف شيئا عن هذه الأسباب، فقد تجده نحيفا كمن أتى من بلاد المجاعة أو ب"كرش" كما لو أن قدميه لم تطأ ملعب كرة من قبل. ربما لا يكون على دراية بأحدث تعديلات القانون، أو ملما بها ولا يمتلك من المقومات البدنية والفنية ما يساعده على تطبيقها السن المبكرة أيضا منصوص عليها في إنجلترا، التي تقبل حكاما من المراهقين الذين بلغوا 14 عاما، ويتدرجون هم أيضا في عدة مستويات تصل إلى 11 مستوى أعلاها الحكم الدولي أيضا، ولا يدير مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز سوى الدوليين بالطبع. ولا يجاز الحكم في إنجلترا لدخول المنظومة إلا بعد أن يقوم بإدارة ست مباريات سواء كحكم ساحة أو مساعد تحت نظر وإشراف حكم خبير يقوم بتقييم أدائه، ولا يتم إعطائه الرخصة إلا بعد أن يؤكد هذا الخبير صلاحيته لإتمام العمل. والمستويات من 11 وحتى الخامس يديرون مباريات على مستوى المقاطعات والمدن المختلفة، ولا يتم استدعاء الحكم لإدارة مباريات في بطولات تجمع أندية إنجلترا في مستويات عليا (وهي مباريات المقاطعات ثم الأقسام من الثالث إلى أعلى) إلا من المستوى الرابع. ويوجد لكل الحكام في إنجلترا "دستور" خاص بهم (اضغط هنا للانتقال إليه)، يتضمن جميع الدورات التي يتعين عليهم اجتيازها، ونظام الحوافز والأجور، وأساليب التطوير، وبرامج التدريب المتنوعة، وبرامج التغذية التي تتضمن أدق التفاصيل إلى درجة كم ونوع السوائل التي يتعين على الحكم تناولها في أيام المباريات وما قبلها وبعدها! والتدريب نفسه يختلف باختلاف البطولات وأماكن إقامتها، إذ خضع هوارد ويب حكم إنجلترا الأول لبرنامج تدريب وقياس في مركز علوم الرياضة والتدريب في جامعة شيفيلد، قبل انطلاقه لجنوب إفريقيا في كأس العالم 2010 وذلك لدراسة ردود أفعال جسده على نقص الأوكسجين في الارتفاعات الكبيرة عن سطح البحر (اضغط هنا لمشاهدة الفيديو). كل ما سبق، إضافة إلى عوامل أخرى، يساهم في تكوين الحكم الأجنبي الذي يحضر إلى القاهرة ويدير مباراة الأهلي والزمالك في ظل طاعة واقتناع كبيرين من لاعبي الفريقين والأجهزة الفنية. هو حكم تم توظيف العلم والتدريب لتأهيله نفسيا وذهنيا وبدنيا وفنيا أيضا. وإذا أردنا الحصول على حكام مصريين أكفاء ومؤهلين علينا تصميم خط إنتاج محترم، ربما لا يكون مثل الألماني أو الإنجليزي، ولكن يحمل شيئا من أسباب النجاح وحينها فقط يمكن للناس غفران وقوع الحكم في أخطاء بشرية (وليس كوارث). الحكم المصري لا يعرف شيئا عن هذه الأسباب، فقد تجده نحيفا كمن أتى من بلاد المجاعة أو ب"كرش" كما لو أن قدميه لم تطأ ملعب كرة من قبل. ربما لا يكون على دراية بأحدث تعديلات القانون، أو ملما بها ولا يمتلك من المقومات البدنية والفنية ما يساعده على تطبيقها. وحتى الوصول إلى خط الإنتاج هذا، سيظل الحكام المصريون على أدائهم الضعيف المذبذب غير المحتمل، لأنهم غير أكفاء وغير مؤهلين، وليس كما يحاول لاعبو ومسؤولو الأندية التي تشجعونها إيهامكم بأن لدى الحكام خططا شيطانية تهدف إلى توجيه الدوري نحو فريق ما أو حرمان فريق أخر منه.