مرر أوسكار تاباريز لسانه على شفتيه، وضعاً راحة يده على شعره المصفف جيداً والمتواجد بكثرة نسبية رغم سنوات عمره ال59، عينيه تملك نظرات حادة، ولكنها زائغة تبحث عن مكان ما للإجابة على سؤال بسيط..."ما الذي تريد أن تصنعه هذه المرة مع منتخب أوروجواي؟" استغرق تاباريز نحو 10 ثوان لإطلاق أول كلمة رداً على كل سؤال، ربما معطياً الفرصة لتأمل صباح سكندري صحو في هذا الوقت المبكر من النهار، ولكنها فعلياً كانت لحظات تذكر فيها ابن العاصمة مونتيفيدو تلك المكاملة المتأخرة التي تلقاها في مارس 2006 من رئيس الاتحاد الأوروجواياني للعبة، والتي كانت أشبه بمكالمة طواريء، مرفقة بعرض لتدريب المنتخب الملقب ب"السيليستي". تاباريز أو "المايسترو" كان يعلم أن كلمة "نعم" تعني عودته مرة أخرى لأشباح جمهوريته الأولى مع منتخب بلاده في الفترة بين عامي 1988 و1990، والتي انتهت بفشل أوروجواي في التأهل لربع نهائي مونديال 1990 على يد المنتخب الإيطالي صاحب الأرض، كانت نهاية معنوية لتاباريز كأنجح مدرب محلي في البلاد وقتها، ونهاية جيل كامل لمنتخب عريق لم ينجح طوال 12 عاماً لاحقة. في الوقت نفسه، كان المايسترو يعلم أن كلمة "لا" تعني إغلاق الفرصة الأخيرة لإسهام شخصي في انتشال نفس المنتخب من إخفاقته المتوالية، والتي كان أخرها الفشل في التأهل لمونديال ألمانيا 2006. فجأة استيقظ تاباريز من ذكريات أمسية قديمة ليرد ناقلاً نص المكالمة التي جمعته برئيس الاتحاد الوطني لFilGoal.com عام 2006 على هامش مباراة منتخبي مصر وأوروجواي الودية: "لقد أبلغت رئيس الإتحاد بأني أريد عقداً لمدة أربع سنوات حتى 2010، وأن أتولى القيادة الفنية دون تدخل من أي طرف في شأن المنتخب الأول والمنتخب الأوليمبي، ومنتخبي الشباب والناشئين معاً". وتابع: "لكننا إتفقنا معاً على أن الهدف النهائي هو التأهل لمونديال 2010 بجنوب إفريقيا".
الابتسامة تعود لتاباريز في 2010 من رأس القارة الإفريقية في الإسكندرية برداء رياضي كامل إلى أقصى جنوبها في بورت إليزابيث بجنوب إفريقيا تحولت ملامح تاباريز ببذلته الرمادية الأنيقة من وجه جامد بلا تعبيرات، إلى وجه قلق نسبياً ثم إلى سعادة غامرة وصرخة فرحة برفقة طاقمه الفني بعد ضمان فريق التأهل إلى ربع نهائي مونديال 2010. إنها رحلة استغرقت أربع سنوات، لخصتها قفزة لويس سواريز الضخمة التي استغرقت ثانيتين بعد إحرازه هدف التأهل الثاني في المرمى الكوري، متخطياً حاجزاً إعلانياً بالملعب، قفزة قد يعتبرها البعض مشابهة للقفزة التي حققها المنتخب السماوي بعد عقود من الإخفاق. ولكن تاباريز في عامه الثالث والستين الآن وحده يعلم أن الرحلة كانت بالغة الوعورة، لم يقتصر الأمر على مسيرة تأهل حافلة بكل انواع التقلبات بداية من الفوز بخماسية وسداسية على بيرو وبوليفيا، ثم التعثر في مونتيفيديو أمام تشيلي وفنزويلا والأكواردور، ثم الخسارة برباعية أمام البرازيل في أسوأ انطلاقة محلية للتصفيات منذ عقود. لم يكن الأمر يتعلق فقط برحلة تصفيات وحلم تأهل، ولكن تاباريز لم يكن يراهن فقط بمنصبه بل كان يراهن على مشروع كروي اعتبره "مشروع إنقاذ" لكرة تخص بلداً بأكمله، وربما على نحو ديكتاتوري. ويقول المدير الفني السابق لفرق بينارول وبوكاجونيورزالأرجنتيني، وأوفييدو الإسباني وكالياري الإيطالي: "لقد كانت رغبتي الحقيقية هي إعادة هوية اواروجواي الكروية، لقد كانت لنا كرتنا الخاصة ذات الحضور الدولي البارز منذ عشرينيات القرن الماضي وذلك ولخمسة عقود تالية .. بمرور الوقت فقدنا هذه الهوية، فقدنا أسلوب لعبنا الخاص". ويضيف "أصبحنا في منتصف الطريق بين الكرة الأوروبية والكرة اللاتينية، مررنا بمرحلة من التيه الكروي، لم نعد ذلك الفريق الذي يتمتع بتلك الصرامة، بذلك الالتزام التكتيكي، ببساطة تقاليدنا الكروية اختفت".
الجيل "التاباريزي" الجديد ويبدو أن تاباريز كان يعلم أن مشروعه لا يتعلق ب23 لاعباً يرتدون القميص السماوي الشهير، بل كان يتضمن كل لاعب اختار كرة القدم كمهنة في ذلك الصغير الذي لا يتعدى عدد سكانه 3.5 مليون نسمة. يقول تاباريز: "كان يتوجب علينا استعادة كل مميزات طريقة 4 – 3 – 3 التي صدرنا للعالم أشكالها المتعددة، لقد طلبت من الاتحاد الوطني للعبة تعميم هذا الأسلوب على كل فرق القسمين الأول والثاني في الدوري المحلي، إلى جانب منتخبات الشباب والمنتخب الأوليمبي، كان علينا إجبار الجميع على تطبيق هذه الطريقة، كان علينا إعادة تذكير جميع لاعبي البلاد بهذه التقاليد من جديد". ربما كان الوصول لنصف نهائي كوبا أميركا 2007 إلى جانب تأهل منتخبي الشباب والناشئين إلى كأس العالم 2009 ثمرة هذ المشروع "التاباريزي" الخاص، إلا أن الاتفاق الذي عرفته مكاملة المايسترو من رئيس اتحاده الوطني ظل سرا حتى منتصف تصفيات أمريكا اللاتينية المؤهلة للمونديال. وحدها كانت فرصة إحراز سبع نقاط في المباريات الأربع الأخيرة للتصفيات ضمنت لرفاق دييجو فورلان المركز الخامس ودخول الملحق أمام كوستاريكا، وطبقاً للتوقيت المحلي لهذا الجزء من العالم، كان منتخب أوروجواي هو الفريق الذي لحق بسبنسة المونديال في اللحظة الأخيرة. تاباريز يعلم أنه أصبح عجوزاً بعشرين عاماً كاملة عن مغامرته في مونديال 1990، عندما حقق بفوزه على كوريا الجنوبية في الدقيقة 93 أول تأهل للمنتخب اللاتيني إلى الدور الثاني منذ 20 عاماً، ولكنه يعلم أن منتخب أوروجواي في تلك التجربة كان عبارة عن الأسطورتين إنزو فرانسيسكولي وروبين سوسا إلى جانب تسعة لاعبين اخرين. ويقول عن فريقه الحالي: "الجيل الحالي مختلف تماماً عن جيل فرانسيسكولي، لا يجوز لنا المقارنة بين فريقين مختلفين في كرة القدم على هذا النحو، نحن نمتلك حالياً مجموعة متميزة، ولكن لا بد من تطبيق نموذج عمل شاق معهم".
أسطورة ال20 عاما: 1930: بطل العالم 1950: بطل العالم 1970: نصف النهائي 1990: العودة للمونديال 2010: ........ تقول الأسطورة أن أوروجواي قادرة على تحقيق كل ما هو استثنائي كل عشرين عاماً بالتمام والكمال، فبعد عشرين عاماً من الاستقرار على اللون السماوي كلون للقميص الرسمي للفريق فاز البلد الصغير بمونديال عام 1930، ثم فاز بلقبه الثاني عام 1950 وأكده بوصوله لنصف النهائي عام 70، وفي عام 1990 تأهل للدور الثاني بعد غياب طويل عن المونديال. وفي 2010 يعلم تاباريز - الذي عرف نجاحات مدوية في قارته الأم، وفشل ذريع في ميلان الإيطالي عام 1996 - أن منتخبه على موعد مع إكمال الأسطورة حتى في الوقت الذي تعادلت فيه كوريا الجنوبية في مطلع الشوط الثاني. فقد كان الفريق اللاتيني وفياً لأسلوبه الصارم، لصرامته الدفاعية التي احتفظت بشباكه خالية في المونديال ل340 دقيقة، مع تواجد رباعي الظهر فوتشيلي، جودين، لوجانو، بيريرا، في الوسط يوجد الوتد الذي حمل الفريق على عاتقه خلال الدور الأول دييجو بيريث، ومعه أريفالو وبيريرا، وفي الأمام يتنكر كل من دييجو فورلان ولويس سواريز وكافاني في دور عقارب هجومية، استعداداً لارتكاب أي لدغة، ولعل منتخبات جنوب إفريقيا والمكسيك وكوريا الجنوبية نفسها نالت من هذه "اللدغات" جانباً. وعلى نفس الأريكة في الأسكندرية، كان تاباريز يستغرق 10 ثوان دائماً للإجابة على كل سؤال، كان يحاول قراءة ما الذي ستخفيه له السنوات الأربع التالية، كانت رحلة على حبل رفيع، إنها نفس النظرة القلقة التي كان ينظر بها للاعبيه في مباراة فرنسا الأولى في المونديال، حتى الكرة التي كانت تتهادى ببطء نحو مرماه في تمهيد لتعادل جديد قرب نهاية مباراة كوريا، قبل أن يخرجها مدافعه لوجانو بهدوء مثير للحسد. تاباريز استغرق أربع سنوات لإعادة أوروجواي لمكانها تحت شمس الكرة العالمية، يبدو زمناً منطقياً قياساً للوقت الذي استغرقه ابن مونتيفيديو والقاريء النهم للرواية والقصائد الشعرية للتأكيد في نهاية الحوار: "أريد ان أعيد الهيبة لفريقنا، أن نستعيد مكانتنا الحقيقية".