عقود طويلة عاشها المصريون فى ظل انتخابات واستفتاءات عصفت بإرادتهم وسرقت أصواتهم وأصوات موتاهم، لصالح نظم حكم مستبدة وفئات سياسية ضالة، ظلت لعقود أيضاً تتبجح بالحديث الإجرامى المتواصل عن نزاهة الانتخابات. وبعد ثورة 25 يناير ابتكر «الإخوان المسلمون» طريقة أكثر إجراماً لتزوير الاستفتاءات والانتخابات من الطرق التى ألفناها مع الحزب الوطنى المنحل، هذه الطريقة يمكن تعريفها بأنها «التزوير من المنبع»، لأنها تقوم بالأساس على حشد الأميين والفقراء والمحرومين من التعليم الجيد للدخول فى معركة وهمية لا وجود لها على الإطلاق، هى معركة الإيمان ضد الكفر، والذين يريدون شريعة الله ضد الذين يريدون الرقص والميسر والتحلل الأخلاقى. والمؤلم أن هذا الكذب الرخيص الذى ابتكره الإخوان ظل يمثل عقبة رهيبة فى طريق أى حوار موضوعى حول البرامج الانتخابية أو مواد الدستور التى لا علاقة لها على الإطلاق فى الواقع بالكفر أو الإيمان، ولهذا بذل المثقفون الشرفاء جهداً مضنياً لتجريم استخدام الدين كتجارة أو مطية لسرقة أصوات الناس أو توجيههم إلى خيارات سياسية بعينها تخفى مضمونها الاستبدادى والرجعى خلف ستار دينى يمثل أفظع إهانة للدين، وأحقر استغلال للسماء وشرائعها فى صراع دنيوى محض. والذى حدث، طيلة أكثر من عام ونصف بعد الثورة، أن شرائح واسعة من المواطنين انتبهت فعلاً إلى حقارة استخدام الدين فى السياسة، وإلى أن الذين يدَّعون أنهم حراس الدين، هم الأكثر دناءة وتكالباً فى طلب السلطة ومنافعها، وقد أدركت جماعة الإخوان تنامى هذا الوعى فلجأت فى الاستفتاء الأخير على الدستور الملفق والكارثى إلى التزوير العلنى المفضوح، وابتكرت فى ذلك أساليب جديدة، لعل أهمها وضع قضاة إخوانيين فى اللجان الحضرية بالقاهرة والإسكندرية وعواصم ومراكز المحافظات التى يعرف الإخوان أنها ستصوت ب«لا» فى الاستفتاء، وقد قضينا طيلة نهار السبت وجزءاً من الليل نتلقى استغاثات الناخبين من هؤلاء القضاة الذين أذلوا المواطنين وأهانوهم، ونجحوا أخيراً فى إعادتهم إلى بيوتهم دون أن يتمكنوا من الإدلاء بأصواتهم. وفى محاولة مفضوحة للتغطية على جريمة تزوير الاستفتاء الذى رفضه غالبية الشعب المصرى دفع «الغامض المريض» رجاله وبلطجيته لإحراق مقر حزب الوفد، وظلت كل الصحف المستقلة والفضائيات مشغولة طوال الليل بتحركات وأفعال هذه القطعان السائبة التى استهدفت التغطية على أفظع جرائم تزوير الاستفتاء على «دستور» كتبه «المؤمنون»، الذين لا يتورعون عن الكذب والتزوير وتلفيق إرادة شعب وإرغامه على قبول دستور الغدر والغيلة، الذى يُمكّن الإخوان من إحكام السيطرة على مصر. هل سيفلح الإخوان فى سرقة مصر؟.. هل لاحت بوادر نجاح خطة التمكين التى وضعها خيرت الشاطر عام 1996، وتم اعتمادها فى أمريكا بدءاً من عام 2003؟ نعم، لاحت بوادر النجاح الآثم.. ولكن رائحة الثورة الحقيقية التى لن يسرقها أحد تبدو الآن أكثر وضوحاً من كل الروائح «النتنة» التى أطلقها تجار الدين فى فضاء مصر خلال المرحلة الانتقالية، وإذا كان الإخوان وقادتهم وأنصارهم الجدد يواصلون تهديدنا بالحرق والضرب والترويع حتى يتمكنوا من فرض دستورهم علينا.. فإن الشباب الذين صنعوا هذه الثورة، وكانوا سبباً فى إخراج الإخوان وأنصارهم من السجون، لقادرون على إعادة الثورة إلى يومها الأول: عفية وطاهرة من المتسلقين وتجار الدين الفسقة.