يقول بعضنا: إن الإخوان يؤدون سياسياً بمنطق تصفية الحسابات مع الماضى. هذا غير صحيح. الصحيح أن الجماعة تنظر إلى المستقبل وتترفع عن ضغائن الماضى، وأحيانا تتصرف بمنطق «عفا الله عما سلف»!! ليس أدل على هذه الادعاء الذى أتقدم به إلا مقارنة أداء الإخوان مع المؤسسة العسكرية فور وصولهم إلى الحكم، وأدائهم مع القضاة الذين كانوا (أو قطاع مهم منهم على الأقل) فى نهاية عصر مبارك تقريباً حليفاً لجماعة الإخوان. هذا بعكس الجيش الذى شارك فى التنكيل بهم. لم يكن مبارك يأخذ حريته فى التنكيل بالإخوان من خلال القضاء المدنى؛ فهذا القضاء كان غالباً يصدر أحكاماً بالبراءة لصالح قادة الإخوان المطلوب حبسهم. هكذا كانت الأداة «القانونية» لحبس الإخوان هى المحاكم العسكرية غير المختصة بالتعامل مع المدنيين. إذن كانت المؤسسة العسكرية فى عصر مبارك هى إحدى الأدوات التى اعتمد عليها النظام فى محاصرة الإخوان. وبالرغم من ذلك فإن تعامل الإخوان مع الجيش بعد وصولهم إلى السلطة كان فيه الكثير من الاحترام والحفاظ على المزايا. لقد استند بعض المحللين على قيام السلطة الجديدة بعزل معظم قيادات المجلس العسكرى التى قادت المرحلة الانتقالية كى تصل إلى نتيجة أن الجيش قد تم وضعه فى مكانه الطبيعى والصحى فى المنظومة الجديدة كحارس للحدود الوطنية. لكن ما إن ظهرت مسودة الدستور الجديد حتى تبين أن الجيش حصل على امتيازات خارقة فى العهد الإخوانى. عندما أقول امتيازات خارقة لا أقصد بالطبع أنه زاد من امتيازاته الآن على ما سبق. فهذا غير ممكن. المقصود هنا أنه حصل على امتيازات لا تتناسب إطلاقاً مع التضحيات وتكلفة دم الشهداء والمصابين التى دُفعت فى المرحلة الانتقالية لكى يعود الجيش إلى ثكناته بأسرع ما يمكن ولكى يتولى الحكم مدنيون منتخبون. كما حصل الجيش على امتيازات لا يمكن أن تتماشى مع أى نظام يستحق كلمة ديمقراطى. ما هذه الامتيازات؟ أولا: استمرار محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية. ثانياً: بقاء «سيادة» الجيش على ماليته دون رقابة شعبية حقيقية. فمجلس الدفاع الوطنى الذى سيراجع ميزانية الجيش يهيمن عليه العسكريون. ثالثاً: المسودة تتكلم عن عدم جواز العمل الإجبارى إلا بشكل قانونى (مادة 64)، دون أن تنص بشكل قاطع على أن العمل الإجبارى يقتصر على الدفاع الوطنى. وهو الأمر الذى يفتح الباب لتقنين الوضع المشوه الذى عاشه الكثير من المجندين والذى بمقتضاه تم تحويل بعضهم للعمل بقوات الأمن المركزى أو مشروعات الجيش الاقتصادية التى ليس لها أى علاقة بالدفاع الوطنى. وفى الوقت الذى بات جلياً أن علاقة السلطة الإخوانية الجديدة مع العسكر لا تمر بأى أزمات، انفجرت علاقتها بالمؤسسة القضائية. وهذا بالرغم من أن القضاة قدموا الكثير للإخوان فى السنوات الأخيرة، سواء من خلال الإنصاف القانونى فى المحاكمات أو من خلال محاولة ضبط نزاهة الانتخابات، الأمر الذى زاد بشكل كبير من حضور الإخوان فى البرلمان، وأخيراً وليس آخراً انضمام جانب مهم من جماعة القضاة إلى جبهة المعارضة التى أسهمت فى إسقاط نظام مبارك. إذن القضية ليست تصفية حسابات وإنما صياغة نظام سياسى جديد على مقاس جماعة الإخوان الحاكمة، ليس من المراد فيه أن تكون هناك سيادة لدولة القانون. بالمختصر المفيد: الصراع الدائر الآن بين الإخوان والقضاة لا يمكن تبسيطه إلى صراع بين الخير والشر يكون فيه القضاة من الأخيار والإخوان من الأشرار؛ لأن المؤسسة القضائية تعرضت لكثير من الإفساد فى ظل «نظام يوليو»، الأمر الذى يجعلها اليوم غير منزهة عن الفساد وعن الاستخدام السياسى المضر. لكن الأكيد أن صدام السلطة الجديدة مع جماعة القضاة ليس منبعه ترشيد أو إصلاح القضاء بقدر ما هو تقليص دور السلطة القضائية لصالح هيمنة السلطة التنفيذية التى يسيطر عليها الإخوان الآن.