الانتخابات فى مرحلة ما بعد الثورة، كما الثورة نفسها، فعل جماعى غير منضبط بقواعد جامدة محددة سلفاً. هى حجر ضخم ينزل باندفاع من قمة جبل، يمكن أن ينحرف فى أى اتجاه بسبب حادثة هنا أو حتى شائعة هناك. صعود السيدين محمد مرسى وأحمد شفيق إلى جولة الإعادة هى أقرب إلى نتيجة مباراة انتخابية تستحق تحليلاً يفسر لماذا صعد من صعد ولماذا تراجع من تراجع. قبل الانتخابات بعدة أيام رصدت عدة استطلاعات رأى تقدم السادة عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح وحمدين صباحى، ولكن النتيجة لم تأت بأى من هؤلاء إلى مقعدى المنافسة النهائية. هناك من تراجع بوضوح، وهناك من تقدم على غير توقع. لماذا؟ وما دلالة ذلك فى المستقبل؟ أولاً، لا بد من التفرقة بين خمسة أنواع من التصويت فى الانتخابات. هناك التصويت الأيديولوجى (المرجعى) وهو التصويت لإطار مرجعى محدد مثل التصويت لشخص أو حزب يمثل الثورة أو تياراً سياسياً بذاته. وهناك ثانياً التصويت التنظيمى، وهو ما يقتضى أن يصوت الشخص لصالح الحزب أو الجماعة التى ينتمى إليها إن قررت قيادات هذا التنظيم أن تدعم شخصاً بعينه. وهناك ثالثاً التصويت العقابى أو الاحتجاجى بما يعنيه ذلك من التصويت «ضد» شخص أو تيار احتجاجاً أو عقاباً له على سوء أدائه السياسى أو الشخصى خلال فترة سابقة. وهناك رابعاً التصويت الاستراتيجى، أى التصويت القائم على حسابات تجعل الناخب يعطى صوته لمرشح أو حزب لا يعبر عن تفضيله التلقائى أو المباشر وإنما على أساس رغبته فى إعطاء صوته للشخص الذى لديه قابلية أعلى للفوز إذا ما غلب على ظنه أن تصويته للشخص الذى يفضله أصلاً لن يفيده لأنه لن يفوز فى كل الأحوال. وهنا خامساً التصويت الإغوائى عبر التوجيه المادى أو المعنوى، وهو تصويت الشخص الذى لا توجد لديه توجهات واضحة أو معلومات كافية عن المرشحين أو الأحزاب ويتم توجيهه سواء من خلال التلقين قبل التصويت مباشرة أو من خلال شراء الأصوات مقابل سلع أو خدمات أو ما يعرف بالرشوة الانتخابية. إذا اعتبرنا أن الهيئة الناخبة المصرية قد صوتت على أساس هذه النوعيات الخمس من التصويت، فكيف انعكست هذه النوعية من التصويت على كل مرشح من المرشحين، ولماذا علت أسهم البعض ولماذا انخفضت أسهم البعض الآخر؟ بالنظر إلى نتائج التصويت التالية يمكن للمتابع أن يصل إلى عدة نتائج. المركز الأول: محمد مرسى: 5,446,460 صوتاً بنسبة 24.9% المركز الثانى: أحمد شفيق: 5,338,285 صوتاً بنسبة 24.5% المركز الثالث: حمدين صباحى: 4,616,937 صوتاً بنسبة 21.1% المركز الرابع: عبدالمنعم أبوالفتوح: 3,889,195 صوتاً بنسبة 17.8% المركز الخامس: عمرو موسى: 2,471,559 صوتاً بنسبة 11.3% أولاً، غير صحيح أن المصريين صوّتوا بالضرورة ضد الثورة، حيث إن المرشحيْن المحسوبيْن على النظام السابق قد حصلا معاً على نسبة 35 بالمائة من الأصوات، بما يعنى أن أغلب المصريين قد اختاروا أسماء لم تكن محسوبة على النظام السابق. وهو ما يبدو متسقاً مع نمط التصويت ضد الحزب الوطنى فى انتخابات مجلس الشعب فى عامى 2000 و2005. وهذا النوع من التصويت يدخل فى أغلبه فى إطار التصويت الأيديولوجى الذى يريد للقوى المحسوبة على معارضة النظام السابق (أى المؤيدة للثورة) أن تفوز بالرئاسة لكن المشكلة أن الثورة لها عناوين متعددة فتفتتت الأصوات. ثانياً، بمقارنة نسبة التصويت للمحسوبين على التيار الإسلامى نجد أنها بلغت حوالى 45 بالمائة من جملة الأصوات بانخفاض بلغ حوالى 25 بالمائة عن النسبة التى حصل عليها التيار الإسلامى فى الانتخابات التشريعية (70 بالمائة) بما قد يعنيه ذلك من أن حجم التصويت الاحتجاجى على أداء الإسلاميين فى البرلمان قد جعل قطاعاً من المصريين يبحثون عن غيرهم. ثالثاً، «من تناظر خسر» تبدو عبارة مفسرة بشكل جيد لحجم تراجع أصوات السيدين عبدالمنعم أبوالفتوح وعمرو موسى بعد المناظرة الشهيرة بينهما والتى كانت مثالاً كلاسيكياً للخطأ العظيم «capital error» الذى كان كالحجر الصغير الذى وجه الحجر الضخم الهابط بسرعة من قمة الجبل؛ فمن قواعد إدارة الحملات الانتخابية أنه «إذا تناظر مرشحان فى غياب آخرين أقوياء، وحدث تلاسن أو تراشق، فإن الغائبين يفوزون» حيث كانت هذه المناظرة هى النقطة التى توقف عندها زيادة حجم مؤيدى الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، وكانت سبباً مباشراً فى تراجع عدد مؤيدى السيد عمرو موسى. ولكن هذا لا يمكن أن يكون السبب الوحيد حيث عانت حملة الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح من عدة مشاكل أخرى مثل جزئية الدعم من التيار السلفى بما فى ذلك فى المحافظات التى توجد بها كثافة كبيرة للدعوة السلفية وحزب النور (الإسكندرية مثالاً). بيد أن الدعم السلفى ومعه دعم الجماعة الإسلامية وإعلانهما أن الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح ملتزم بتطبيق الشريعة الإسلامية (وهو ما قالته قيادات سلفية على سبيل اليقين) أحدث خلخلة واضحة فى قدرة حملة الدكتور أبوالفتوح على استنساخ حالة ميدان التحرير، حيث تشارك الجميع من ليبراليين وإسلاميين وثوار بلا تيار. كما كان واضحاً كذلك أن تراجع أصوات السيد عمرو موسى ترتبط بما هو أكثر من «مناظرة تكسير العظام» التى كانت مع الدكتور أبوالفتوح، حيث كان غياب أى دعم من أى تيار أو أحزاب قوية سبباً فى تراجع أعداد المصوتين له. رابعاً، كانت هناك مفاجأة بالفعل للصعود المفاجئ للسيدين أحمد شفيق وحمدين صباحى رغماً عن البداية المتواضعة لكل منهما فى الحملة. فى حالة السيد أحمد شفيق، هناك اتجاه لدعمه من قبل قطاعات كانت فى الأصل معارضة للثورة أو تضررت منها ضرراً بالغاً، وبالتالى تريد عودة الدولة الحارسة والدولة الحامية لمصالحهم، فضلاً عن اتجاه قطاع واسع من المواطنين المسيحيين للتصويت له. إضافة إلى ذلك، استفاد السيد أحمد شفيق من وابل الإهانات والاتهامات التى تعرض لها فى آخر أسبوع بما مس وتراً عند قطاع من المصريين الذين يرون أن هذه الطريقة فى إهانة الأشخاص تتناقض مع ما اعتاد عليه المصريون من احترام الكبير سواء بسبب العرف أو الدين. يضاف إلى ذلك دعم الجهاز الإدارى للدولة وأسر العاملين فى وزارتى الداخلية والدفاع ممن يرون فيه تجسيداً لقيم الدولة المصرية التقليدية. وعليه فقد فاز بالكثير من الأصوات العقابية للثورة والثوار، والكثير من الأصوات الاستراتيجية التى اعتبرت أن تراجع عمرو موسى سيضر بقضية الآلاف ممن وجدوا فيه قوة الدولة. أما صعود السيد حمدين صباحى فيرجع بالأساس لاستفادته من أخطاء الآخرين، وعلى رأسها المناظرة التى جعلت الكثيرين يخرجون بانطباع الرغبة فى البحث عن بديل آخر محسوب على الثورة ولكنه ليس متعارضاً مع مؤسسات الدولة. كما أن مهاراته الشخصية (من ناحية البلاغة والاتزان والتفاؤل) جعلته أقرب نفسياً وذهنياً إلى قطاع كبير من المصريين سواء من كبار السن أو الشباب على السواء. كما أنه قدم معادلة جيدة تقوم على الدولة الحامية (الأمن) والراعية (العدالة الاجتماعية) للفئات الأكثر احتياجاً باعتباره عبدالناصر نسخة 2012 بدرجة أعلى من المرونة والبراجماتية. ولا شك أن اقتصار فترة الدعاية الانتخابية على 21 يوماً فقط أضرته ضرراً بالغاً، لأن أسهمه كانت بالفعل فى ازدياد. وعليه جمع السيد حمدين صباحى بين الكثير من الأصوات الأيديولوجية المؤيدة للثورة ولقيم العدالة الاجتماعية والأصوات الاستراتيجية التى اعتمدت على حساب أن فرصه تزيد بعد تراجع الدعم لحملة الدكتور عبدالمنعم. ولا شك أنهما لو كانا دخلا فى تحالف ما، لفازا بالانتخابات وربما من أول جولة. ماذا عن المستقبل؟ الهيئة الناخبة المصرية سواء فى الاستفتاء أو انتخابات مجلس الشعب أو الانتخابات الرئاسية تدور حول رقم الخمسة وعشرين مليون ناخب: منهم نحو 7 ملايين ناخب يميلون للتصويت لصالح السيد أحمد شفيق وعلى رأس هؤلاء خمسة ملايين ناخب صوتوا له فى الجولة الأولى، فضلا عن مليونين سيأتون له من السيد عمرو موسى بمنطق التصويت الاستراتيجى (أو وفقاً للحسابات الانتخابية). وهناك على الجهة الأخرى نحو 7 ملايين صوت انتخابى سيذهبون إلى الدكتور محمد مرسى، منهم 5 ملايين ناخب ممن صوتوا له فى الجولة الأولى ومنهم مليونا ناخب من السلفيين. يبقى حوالى 11 مليون ناخب ممن يمكن وصفهم بأنهم من مؤيدى الثورة ومن غير مؤيدى الإسلاميين. هؤلاء لا يريدون «حسنى مبارك» جديداً بحكم تأييدهم للثورة، ولا يريدون «أيمن الظواهرى» بحكم تخوفهم من الإسلاميين. هؤلاء هم الذين سيحددون إلى أين تتجه مصر. هذه الكتلة من ال 11 مليون ناخب سيكون عليها أن تختار بين ثلاثة بدائل، إما شفيق أو مرسى أو المقاطعة. ولا شك أن نسبةً ما من هؤلاء سيقاطعون، ولكن الجهد الأكبر الآن على حملتى شفيق ومرسى هو الوصول بسرعة لأكبر نسبة من هؤلاء عن طريق تقديم حزمة من الوعود المعلنة والمقنعة التى لا ترتبط بالرئاسة فقط، ولكن كذلك بخط سير البلاد فيما يتعلق بالجمعية التأسيسية وتشكيل الحكومة وصلاحيات الرئيس فى فترة اللادستور التى نعيشها الآن. وما يبدو واضحاً الآن أن تحركات القوى المحسوبة على الثورة (الإخوان ومعهم الإسلاميون المستقلون وبعض الليبراليين) تسير فى اتجاه التنسيق. وما يبدو كذلك أن هناك تفضيلات لدى الإدارة السياسية الحالية للبلاد فى الاتجاه المقابل. إذن كلمة السر هى التنسيقات والتحالفات التى يسعى إليها كل طرف ومدى نجاحها فى إقناع ليس فقط الرموز السياسية والمرشحين الخارجين من سباق التنافس ولكن كذلك آحاد المواطنين الذين يحتاجون أن يقدم لهم كل تحالف ما يقنعهم بالتصويت لهم. إنها الانتخابات الديمقراطية فى أعقاب الثورات، بحلوها ومرها.