عرف الشرق الأوسط على مدار تاريخه الطويل كثيرًا من المغامرات والمغامرين القادمين من دول وثقافات شتى، قادة، علماء، مستشرقين وجواسيس استهدفوا خيراته، وحاولوا السيطرة عليه بالاحتلال وزراعة بذور الفتنة والانقسام بين شعوبه، لكن ما جمع بينهم جميعًا هو أنهم لم يفهموا الشرق الأوسط، ولا خصوصيته الفريدة، فهذه الأرض ليست كغيرها من بقاع العالم، إنها أرض التجلى الأعظم لله عز وجل، ومهد الديانات التوحيدية. هنا عرف المصريون القدماء التوحيد قبل آلاف السنين، ومن هنا انطلقت رسالة الإسلام من مكةالمكرمة، على لسان خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وكانت هاجر، الزوجة المصرية لسيدنا إبراهيم عليه السلام، أمًا لسيدنا إسماعيل، الذى جاء من نسله العرب. هنا يتداخل التاريخ مع الجغرافيا، وتتقاطع الأديان مع الحضارات، ليشكل الشرق الأوسط وحدة روحية وثقافية، لا يفهمها من جاء يطلب الثروة أو النفوذ، دون أن يقرأ سطور القداسة التى كُتبت على أرضه منذ فجر التاريخ. ومن هنا نفهم سر الترابط الوجودى بين مصر والسعودية.. ولماذا تتكسر شائعات الخلاف وأوهام الانقسام بينهما. على مر الزمن نشأت بين القاهرةوالرياض علاقة صلبة صلدة تنكسر عليها كل المؤامرات، التى تُحاك من أجل قطع أواصر المحبة الصافية بين البلدين اللذين يمثلان لكل العرب عمود الخيمة، وجناحَى الأمن القومى العربى. قال الرئيس عبد الفتاح السيسى: «لن ترونا إلا معًا».. بهذه الجملة تحدث الرئيس بلسان مصرى صميم عن عمق العلاقات المصرية السعودية، وعبر تاريخها المشترك، فمنذ الفتح العربى لم تتخلَّ مصر يومًا عن السعودية، ولا المملكة ابتعدت يومًا عن أرض الكنانة. وفى خضمّ التحولات الإقليمية والصراعات الدولية، يبرز تحالف مصر والسعودية كركيزة أساسية لاستقرار الشرق الأوسط، تحالف لم يتشكل على أساس المصالح المؤقتة أو التحالفات الموسمية، بل نشأ من احتياج وجودى عميق، فرضته ضرورات الجغرافيا والتاريخ والمصير العربى المشترك. هذا التحالف ليس مجرد تعاون سياسى أو تنسيق دبلوماسى، بل تحالف بقاء، ترتكز عليه معادلة الأمن القومى العربى فى مواجهة التحديات الكبرى: من الإرهاب إلى التدخلات الخارجية، ومن انهيار الدول إلى تصدع الهويات. منذ تأسيس المملكة العربية السعودية، والعلاقة مع جمهورية مصر العربية تقوم على أساس من الاحترام المتبادل والدعم المشترك ووحدة المصير، وقفت فيها الرياض مع القاهرة فى لحظات دقيقة من تاريخها. وفى سنوات الفوضى عقب أحداث يناير 2011 تألمت الرياض لما يحدث فى القاهرة، وكانت أول من لبى نداء الخلاص فى ثورة 30 يونيو 2013، ودعمت الشعب المصرى فى ثورته على حكم جماعة الإخوان الإرهابية بكل أسلحتها الدبلوماسية. كانت مصرعلى مفترق طرق، وتحركت السعودية بقيادة الملك عبد الله بن عبد العزيز آنذاك، والذى عبر عن موقف المملكة الداعم للقاهرة بكلمته التاريخية: «ليعلم العالم أن المملكة العربية شعبًا وحكومة وقفت وستقف مع مصر ضد الإرهاب والضلال والفتنة»، مُعلنًا موقفًا لا يقبل التأويل، مفاده أن مصر لن تُترك وحدها، وأضاف فى نداء مباشر: «أدعو كل المصريين والعرب والمسلمين إلى الوقوف صفًا واحدًا فى وجه من يحاول زعزعة أمن مصر». وفى جبهة الدبلوماسية، كان صوت الأمير سعود الفيصل لا يقل حسمًا، فخاطب العالم من فوق منبر الأممالمتحدة قائلاً: «لا نقبل أن تُتخذ حقوق الإنسان ذريعة للتدخل فى شؤون مصر»، مضيفًا عبارته الخالدة: «من يراهن على إضعاف مصر يراهن على وهم». عرف الشرق الأوسط فى السنوات الأخيرة أزمات ممتدة وربما غير مسبوقة، يأتى فى مقدمتها خطر المليشيات وأحلام التوسع الإقليمية، وكان الموقف العربى موحدًا بفضل تحركات القاهرةوالرياض المتزنة فى مواجهة تلك التهديدات، وذلك لصياغة رؤية إقليمية تحفظ للدول العربية استقلالها وقرارها الوطنى، وعبّر ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان عن هذا التوجه بقوله «العلاقة بين المملكة ومصر علاقة متجذرة، وهى حجر الزاوية فى أمن واستقرار المنطقة». لم يقتصر التعاون على الجوانب الأمنية أو السياسية فقط، بل امتد إلى مشروعات اقتصادية كبرى، كما شكلت السوق المصرية خلال السنوات الأخيرة إحدى الوجهات الاستثمارية الجاذبة لرؤوس الأموال السعودية، وذلك فى ظل ما تشهده مصر من إصلاحات اقتصادية وتشريعية وهيكلية تهدف إلى تهيئة مناخ استثمارى آمن ومحفز، وفى إطار العلاقات الوثيقة بين القاهرةوالرياض فتحت مصر أبوابها أمام الاستثمارات السعودية فى قطاعات استراتيجية متعددة، شملت الطاقة، العقار، السياحة، الصناعة، البنية التحتية والزراعة، ونفس الأمر حدث فى المملكة، حيث استقبلت الأسواق السعودية الشركات المصرية، والتى حققت ناجحًا كبيرًا فى العمل داخل المملكة. ولعب «مجلس التنسيق المصرى السعودى» دورًا محوريًا فى تيسير تلك الفرص، حيث شهدت السنوات الأخيرة توقيع عشرات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، وارتفع حجم الاستثمارات السعودية فى مصر ليصبح من بين الأعلى عربيًا، كما أعلنت الحكومة المصرية عن تخصيص مناطق صناعية وتجارية لتشجيع الاستثمارات الخليجية، وفى مقدمتها السعودية، بما يعكس عمق الثقة المتبادلة ورغبة حقيقية فى بناء اقتصاد مشترك، يستفيد من قدرات السوق المصرية الضخمة، ومن السيولة ورؤوس الأموال السعودية الباحثة عن فرص واعدة ومستقرة. عمق هذه الشراكة وهذا التكامل فى ميادين شتى ليس مجرد مصالح متبادلة، بل هو ترسيخ لتحالف طويل الأمد يخدم شعبى البلدين والأمة كلها. العلاقات المصرية السعودية حائط صد ضد الفوضى، وضمانة لاستمرار المصالح العربية المشتركة، مع احترام كامل لخصوصية كل دولة، وحقها فى أن تتحرك وفق مصالحها الخاصة، دون المساس بالأساس المشترك، الذى تجذر عبر الزمن بين القاهرةوالرياض. تمتد الشراكة المصرية - السعودية إلى ما هو أبعد من السياسة والاقتصاد، فهى تشكل جبهة موحدة فى مواجهة الإرهاب والتطرف والفكر الضال، عبر دعم متبادل للمبادرات الأمنية والفكرية وتجفيف منابع التطرف بكل أشكاله، وقد أدركت القاهرةوالرياض مبكرًا أن المواجهة لا تُحسم بالسلاح وحده، بل تحتاج إلى تعاون ثقافى ودينى عميق، يعيد تشكيل الوعى، ويحاصر الأفكار الهدامة من منابعها، ولهذا جاء التعاون فى المجال الدينى والثقافى كأحد محاور «القوة الناعمة» للعلاقة، خاصة فى ظل ما تمثله المؤسسات الدينية كالأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء من مرجعية روحية فى العالم الإسلامى. ومنذ عام 2013، استهدفت قوى معادية هذا التحالف العربى الكبير، عبر حملات تضليل إعلامى وشائعات مغرضة على منصات التواصل، تقودها أطراف لا تُخفى عداءها لاستقرار المنطقة، كما اعتبرت جماعات متطرفة وتنظيمات إرهابية هذا التحالف حجر عثرة فى طريق مشروعها التخريبى، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، بفضل عدة عوامل، يأتى فى مقدمتها عمق الروابط التاريخية والثقافية بين البلدين، ووعى القيادتين بمخاطر الانقسام، والإيمان الشعبى بجدوى هذا التحالف، إلى جانب تطور العلاقة نحو شراكة استراتيجية شاملة، وقوة التنسيق المتبادل وتماسك الرؤية تجاه التحديات المشتركة. إنه تحالف لا يقبل الانقسام، لأن تمزيقه يعنى انكشاف المنطقة كلها أمام مشروعات الهيمنة، وهو ما تتصدى له القاهرةوالرياض بهدوء وثقة، وفق رؤية واعية بالمخاطر المتعددة، ويقين بأن عبورها أمر حتمى. المصريون يحبون المملكة العربية السعودية، ويتجلى هذا الشعور عند أى ظرف تتعرض له المملكة، ولديهم حرص كبير على إظهار ذلك، سواء داخل مصر أو أثناء عملهم بالمملكة، وتجد بالمثل حب أهل المملكة لأهل مصر، وحرصهم الدائم على زيارتها والحفاظ على العلاقات الشعبية، مما يعكس واقع التآلف والمحبة بينهما. العلاقات المصرية السعودية تمثل حالة فريدة من التوازن والنضج والرؤية الواضحة، فهى تعاون مستدام، يقوم على الإرادة السياسية الحازمة والثقة التاريخية والشعور بالمسؤولية تجاه الأمة، تحالف وجودى لا يقبل الانقسام، لأنه ليس تحالف دول، بل تحالف أوطان وشعوب ومصير.