حتى تلك اللحظة لم تعد الدولة لبناء الإنسان فى بلادى. نعم هناك الكثير والكثير من الخطوات الحثيثة والجادة لبناء الاقتصاد ودعم الوضع الأمنى وتنشيط المقدرة السياسية الخارجية، ولكن لا تزال الدولة غائبة عن ملفات غاية فى الخطورة رغم إدراك رئيس البلاد ومَن حوله للمرحلة التى نعيشها وتسيد أدوات حروب العقول لها. نعم نعلن أننا فى مرحلة حروب الجيل الرابع ولكننا نواجه تلك الحروب بأسلحة الجيل الأول والثانى والثالث وننسى الإنسان وعقله وحقه فى الفهم وحقه فى المشاركة، ومسئولية الدولة فى حماية وعيه وفهمه، وللأسف يخسر من يحارب بسلاح لا يناسب المعركة. الأهم أننا أكثر من يدرك أن سلاحنا الوحيد فى أى معركة أو حرب نخوضها هو الإنسان المصرى، سواء كان قائداً طموحاً أو مقاتلاً عتيد الانتماء والتشبث بالأرض والعرض. هكذا تقول كل تجاربنا السابقة يا سادة. ولكننا نُصر على تجاهل بناء البشر فنُبدّى عليهم بناء الحجر رغم أن الفرد هو الفاعل. ودليلى يا سادة من واقع تلك الأيام التى نعيش فيها ذكرى أكتوبر 73، أننا دخلنا حرباً منذ 42 عاماً كان الأساس فيها بناء الفرد المقاتل لا نوعية السلاح الذى يحمله. دخلنا حرباً غير متكافئة فى القوة العسكرية من كل النواحى، ولكن تفوقنا فيها بالقوة البشرية -وعياً وإدراكاً وفهماً وإيماناً- فكانت هزيمة العدو. ولا أعلم كيف يفوتنا هذا الدرس ونحن نحتفل بذكرى نصر أكتوبر؟ تغيب الدولة فى الإعلام وتتركنا صرعى قنوات عربية تحمل اسم «مصر» فتنتج أعمالاً تافهة ترضى مزاج جمهور مغيب. وتمنحنا بين الحين والآخر مسلسلات أقل ما توصف به أنها صورة باهتة للفكر ذاته الذى قدم لنا الفن التركى على أنه نموذج الحب والرومانسية فى علاقات غير مشروعة يرفضها الخُلق قبل الدين. تغيب الدولة فى الإعلام وتتركنا فريسة لبرامج لا تسعى لفكر أو تنمية أو بناء وعى، ترفع شعار الحريات والديمقراطية والإعلام الحر، بينما تكسر فينا كل يوم قيمة جديدة فى الحوار والسلوك والرقى. تغيب الدولة فى الإعلام وتتركنا صرعى هواة إشعال الحرائق ومحترفى بيع اللحوم. تغيب الدولة فى الإعلام وتتركنا لقنوات الموالد والعُرى التى لا تقل سوءاً عن قنوات أغلقناها لأنها كانت تروج لفتنة وتجارة دين. تغيب الدولة عن الإعلام والنتيجة زيادة المسخ الخلقى والعقلى فى مجتمعنا. وتغيب الدولة فى ساحات الجامعات ومراكز الشباب بالمعنى الحقيقى للوجود، فتتركهم صرعى غياب الانتماء والفهم لقضايا بلادهم، وتتركهم فى عوالم تنقصها المعلومات والبيانات التى باتوا يتحصلون عليها من تجار الدين والأوطان ومن سماسرة الشعوب عبر كل وسائل التكنولوجيا المتاحة. تغيب الدولة عن شبابها وهى تظن أنهم مجموعة مارقة متمردة وحسب، دون أن تنتبه إلى كونهم خُلقوا لزمان آخر، وأن علينا إعدادهم بشكل يليق بهذا الزمان الذى سنترك لهم فيه بلادنا أمانة. غابت الدولة ولم تدرك ما يتوجب عليها من احتواء وإنصات لأصوات الشباب وأحلامهم ومعارضتهم، لعل من بينها ما ينير طريقاً أو يرسم مخرجاً أو يمنحنا مبدعاً. غابت الدولة والنتيجة شباب مصرى صرعى الغياب. غابت الدولة فى ملف الفن دون أن تدرك أنه المؤسس للروح والوجدان، وتركتنا بضاعة فى يد تجار اللحوم والعقول والروبابيكيا، فجفت النفوس وضاع منها السمو ومنطق الجمال والحب والخير. غابت الدولة فى الفن فغابت الأخلاق والقيم والقدوة. غابت الدولة فى الفن فحصل المجتمع على صفر فى شهادة الإنسانية. ولذا لا أملك إلا الهتاف مطالبة بشَدة مجدداً فى ساحة الوطن، بعودة الدولة فى أسرع وقت لبناء الإنسان. فهل من مجيب؟