انقضى النصف الأول من الدورة ال65 من مهرجان «كان» السينمائى ومن المقرر أن يُختتم المهرجان الأحد المقبل بإعلان الفائزين بالجوائز وعلى رأسها السعفة الذهبية وهى الجائزة الكبرى للمهرجان. وعلى الرغم من أنها ليست ذات مقابل مالى فإنها عظيمة الفائدة بالنسبة للفيلم الذى يحصل عليها؛ لأنها تفتح أمامه فرص الحصول على تمويل عالمى لأفلامه، تماما مثلما هى حالة المخرج الإيرانى عباس كياروستامى. عرض حتى كتابة هذا المقال 14 فيلما من أفلام المسابقة البالغ عددها 22 فيلما. أهم هذه الأفلام حتى الآن ثلاثة أفلام هى بالترتيب: أولا: الفيلم الفرنسى «حب» للمخرج النمساوى الأصل مايكل هانيكه، وهو يدور حول علاقة الحب التى تربط بين زوجين وتستمر بعد أن أصبحا طاعنين فى السن، وتصبح الزوجة على مشارف الموت، والزوج مُصر على أن يخدمها بنفسه، يتألم ويتعذب لما أصابها، ويتذكر لحظات كانا فيها يتمتعان بالصحة والقدرة على الاستمتاع بالموسيقى معا، لكنه يجد نفسه مضطرا لقتلها رحمة بها بعد أن أصبح ألمها لا يُطاق. وبرغم قسوة ما ينتهى إليه الفيلم المصنوع بشاعرية ورونق خاص من خلال الأسلوب المميز للمخرج هانيكه الفائز بالسعفة الذهبية من قبل عن «الشريط الأبيض» قبل عامين، فإنه ينهى الفيلم بمشهد «متخيل» للزوج المسن وهو يكتشف أن زوجته لم تمت وأنها عادت لتقف فى المطبخ تقوم بغسل الصحون ووضعها فى أماكنها! أما الفيلم التالى فى جماله ورونقه فهو الفيلم الرومانى «وراء التلال» للمخرج كريستيان مونجيو (الحاصل على السعفة الذهبية عام 2007 عن فيلم «أربعة أشهر وأسبوعان ويومان»، وهو يصور بشفافية مؤثرة علاقة الصداقة الوثيقة بين فتاتين، إحداهما تلتحق بالدير وترفض صديقتها أن تتركها وتحاول إقناعها بعدم العيش فى الدير وتحثها على العودة إلى الحياة العادية، إلا أنها تواجه بالرفض من جانب صديقتها فتصاب بنوبات تشنجية حادة، مما يؤدى إلى اعتقاد كبير الرهبان، ومعه الراهبات، بأنها أصيبت بمس من الشيطان، وتتم إقامة طقوس إخراج الشيطان من جسدها بما تتضمنه من ممارسة العنف الجسدى البالغ عليها وهو ما يؤدى إلى وفاتها. والفيلم الثالث هو الفيلم الدنماركى «المطاردة» للمخرج توماس فنتنبرج الذى يعد درسا فى السيناريو الجيد المتقن المصنوع بدقة الساعة السويسرية، الذى يهتم برسم الشخصيات، كما يهتم بإحاطتها بالتفاصيل الدقيقة التى تخدمها وتعمقها، وتبرز كثيرا براعة الإخراج، إدارة التصوير، والتحكم فى الممثلين، ودفع الإيقاع داخل الفيلم بحيث يبقى المتفرج مشدودا إلى متابعة الموضوع المثير حتى النهاية، ولكن دون اللجوء إلى المبالغات الميلودرامية. والموضوع يدور حول مدرس أطفال يجد نفسه ذات يوم ضحية كذبة أطلقتها طفلة صغيرة فى المدرسة التى يعمل بها، حيث تزعم أنه تحرش بها جنسيا، وهو برىء تماما من التهمة، ولكن تكون النتيجة أنه يتعرض لاضطهاد ورفض ولفظ واعتداءات متكررة من جانب أهل البلدة وعلى رأسهم والد الطفلة وهو فى الوقت نفسه أقرب أصدقائه. ورغم أن الشرطة تطلق سراحه دون أن توجه له تهمة، إلا أن اضطهاد أهل البلدة له يستمر بل ويتصاعد، وهنا يتعين عليه أن يثبت أنه برىء لكى يسترد كرامته أمام ابنه وأصدقائه وأهل البلدة. إنه فيلم عن الشر الجماعى وعن نسبية ما يقال عن براءة الطفولة، فهو يثبت أن الأطفال ليسوا دائما أبرياء صادقين كما يقال، وأن الصمت عن الحقيقة حتى بعد اتضاحها يعكس ذلك الخوف الدفين الكامن داخل النفس البشرية من مواجهة الحقيقة ومن الاعتراف بالخطأ فى حق الغير. ها الفيلم أثار اهتماما كبيرا فى «كان» سواء بين النقاد أو الجمهور، بسبب تميز عناصره الفنية وقوة موضوعه وجدة معالجته إلى جانب الأداء التمثيلى البارز لبطله مادز ميكلسن الذى يمكن أن يحصل على جائزة أفضل تمثيل، لا ينافسه فيها، حتى الآن، سوى الممثل الفرنسى المخضرم جان لوى ترنتنيان فى فيلم «حب» لمايكل هانيكه. أما أفلام الكبار التقليديين فقد فشلت فى إثارة اهتمام أحد على شاطىء الكروازيت مثل فيلم «مثل شخص واقع فى الحب» للمخرج الإيرانى عباس كياروستامى، وهو فيلمه اليابانى الأول بعد فيلمه الإيطالى «نسخة موثقة» قبل عامين، ولكنه هنا بدا أقل تألقا وإقناعا بل أكثر اعتمادا على فكرة أدبية، ومعالجة مسرحية تمتلىء بالحوارات المرهقة والأداء الجامد النمطى. ولم ينجح أيضا فيلم العملاق الفرنسى آلان رينيه «أنت لم تر شيئا» فى جذب الأنظار، بينما كان هناك من يراهنون بأنه ربما يكون فيلم السعفة الذهبية، فمخرجه الذى يعد أحد رواد الموجة الجديدة، يبلغ حاليا 89 عاما، وهو مخرج معروف بمثاليته وإخلاصه الشديد فى التعامل مع مواضيع أفلامه، ولكن الفيلم الجديد يفشل فى إثارة الاهتمام بسبب افتقاده للمتعة التى توفرها عادة أفلام رينيه رغم تعقيدها الخارجى. يبدأ الفيلم بداية قوية عندما يتوفى مؤلف مسرحى كان قد أوصى بأن يحضر ممثلو وممثلات مسرحياته فتح وصيته، فيتوجه هؤلاء فعلا إلى فيللا الكاتب الراحل لكى يعرض عليهم الخادم، من خلال شاشة فيديو، مسرحية «أورفيوس» التى سبق أن لعب أدوارها معظمهم. وهنا يأخذون فى إعادة تقمص الشخصيات، ويكشفون عن تناقضاتهم وما كانوا يخفونه فى طيات أعماقهم من مشاعر فى سياق مسرحى صرف يستمر حتى النهاية فى إيقاع شديد البطء، وكأن الفيلم ارتد إلى عصر المسرح المصور. ولا يزال الفيلم الفرنسى «صدأ وعظم» للمخرج جاك أوديار -الحاصل على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم عن فيلمه «نبى» قبل عامين- ضمن الأفلام الأولى المرشحة لنيل السعفة الذهبية، بل إن النقاد العشرة الذين تستطلع مجلة «الفيلم الفرنسى» آراءهم يوميا منحه خمسة منهم السعفة الذهبية، لا يضارعه فى هذا سوى فيلم «حب» الذى منحه سبعة نقاد من بين العشرة السعفة الذهبية. ويروى الفيلم قصة إنسانية مؤثرة حول العلاقة بين رجل «يدعى على» يحاول أن يعثر له على مكان فى المجتمع الفرنسى، وينتقل من عمل إلى آخر من تلك التى تتصف بالعنف والمغامرة ويتعرض خلالها إلى الكثير من المخاطر، وبين امرأة تصاب إصابة خطيرة فى حادث ما يؤدى إلى بتر ساقيها. ويصور الفيلم كيف تتغلب المرأة على أزمتها وتستعيد علاقتها الصحيحة بالمجتمع فى حين يكاد إهمال الرجل وعدم اكتراثه أن يودى بحياة ابنه. تمثيل مؤثر وأداء متميز للغاية من جانب ماريون كوتيار التى يمكن جدا أن تحصل على جائزة أفضل ممثلة.