صديقى العزيز.. ألححتَ علىَّ أن أجيبك هاهنا بعيداً عن الاشتباك السياسى، والجدل الدستورى، والصراع اليومى، شاكياً لى بُعْدَك عن الطريق، وألم قلبك، والصدأ الذى يملأ جوانحك بعد ما وصفته «بالكارثة» التى أخذتك بعيداً منذ «تلك الليلة الدنسة التى ما زال ظلامها فى قلبك إلى اليوم، حتى صارت الحياة يابسةً لا حياة فيها»، كما تقول. دعنى أصارحك أن هذه الشكوى لم تزعجنى؛ فشعور قلبك بالألم دليل حياته؛ لأنه لو كان منتكساً لما تألم.. وإصابة المرء بالمعصية أو وقوعه فيها ليست نهاية الطريق.. بل بدايته! ربما تكون تلك المعصية تذكيراً له بقَدْر النعمة التى كان عليها، وأنه ربما غَفل عن شكرها، أو اعتادها، فغابت عنه ليشتاق إليها، ويأتى إلى الطاعة ذليلا مطرقاً خالياً من شوائب الرياء.. المعصية أيها الصديق العزيز قد تكون «لحظة إفاقة» لا غفلة! لا تتعجب.. فإنها بقبحها ودنسها وعتمتها الثقيلة وطريقها الموحش تصرخ بصاحبها أن هذه الطريق لا تليق بك.. وأن الطاعة هى التى تجمع عليك ذاتك، وتهدر بالنور فى قلبك، وتسكب فيه عطر الطمأنينة.. وعندها يكون الدافع إلى الطاعة «ذاتيًّا» قبل أن يكون شرعيًّا، وهذا سر عظيم جميل!! ونعمة خفية جليلة القدر، قلَّ من ينتبه إليها: «أن يكون الدافع إلى الطاعة ذاتيًّا»! فقد يلمح كثير من الناس ظاهر الأمر، ولا يدركون الكرم الخفى المطوى فى ثنايا المعصية! وبعد الألم تعود، وتكون مصحوباً بعافية «البصيرة» -فقد وقعتَ فعرفتَ- وقوةِ «الدافع الذاتى» -فلستَ بحاجة إلى من يصف لك مرارة شىءٍ ذقتَه- بل صار النداء داخليًّا ذاتيًّا منطلقاً من شِعاب النفس وأودية الروح لمفارقة درب المعصية الموحش إلى رحابة الطاعة، وجمالها وفرحتها، وبسمتها الطفولية البريئة، ولذتها الصادقة.. أن يتواصل البشرى بالإلهى، والترابى بالسماوى، وأن يلامِسَ الإنسانُ «حقيقة ذاته»، بعيداً عن أكاذيب الشيطان الذى يصور للإنسان أنه لن يكون إنساناً إلا بتخليه عن «إنسانيته»! وهنا ينهض الباعث من ركام النفس، ويشعر المرء بالألم، والحيرةِ القلقة، والكلماتِ التى تجمدت وكانت ناضرةً من قبل، فيقف، ويحاول أن يعود.. يُحِسُّ بثقلٍ ما فى الصدر! يحجب عنه سبل التحليق والعودة من جديد. ويطول السعى ويتراكم النداء فى النفس: أين ما كنتُ عليه.. أين الخلوات الذاكرة، وأعمال البر والخير؟! شردتْ عنى قافلة الحب وتركتنى فى بيداء الظمأ بلا ماء ولا ثمرة! لا تنزعج! فطول احتجاب الثمرة له فائدة نفيسة فى تخليص النفس من أثقالها بديمومة المحاولة، بكثرة الطرق، بالمثابرة، بالاجتهاد مرةً من بعد مرة.. ويتوالى الطرق بمعول الحنين.. بكثرة السجود، بالانشغال بالذكر، بصدقةٍ خفيةٍ، بالتماس دعاءٍ من أخٍ لى فى الله.. بسؤالٍ.. وأنت فى هذا المسعى وطول الطريق لا تشعر بتساقط الأثقال والأوزار.. حتى يتم له نقاؤك.. وفجأة.. يطل الإيمان ببريقٍ غامرٍ فى العينين وتشرق الفرحة فى دمعةٍ تكون ترجمةً لراحة الوصول.. أخيراً.. يااااااه.. «ما أجملك يا سيدى الرحيم!». وعندها يعتدل الإناء، ويصفو الشراب، ويشرق القلب، وتكون التوبة حياةً، وليست حالةً عابرةً، وكيف لا؟! أليس قد أتى، فوجده كريماً، وتلقَّاه بالفرحة، وعامله بالإحسان، ووفَّقه للعودة، وسدَّده للرجوع؟! فما أكرمه!! جعل الألم فى قلبى يوم ابتعدتُ لأعود! وسكب الفرحة فى قلبى يوم عدتُ لأتوب، وعاملنى فى الحالين بكرمه وجماله!