فلتفرحى يا مدينتى الصابرة فلتفرحى، لأن دعوة أبنائك الشهداء قد تحققت، فها هى أفئدة الناس تهوى إليكِ، وها هو رزقك ينساب من عيون السماء. ها هى مولودتك الجديدة «قناة السويس الثانية، تطل من رحمك الخصب بزرقتها المتجلية، لتصبحى أماً لبنتين تحملان الحياة لمصر، وتحملان رائحة جدهم النيل العظيم». منذ أن كتب الأديب الراحل العظيم، ابن مدينة الإسماعيلية محمود دياب رائعته «أحزان مدينة» ظل الكثيرون يطلقون عليكِ أيتها المدينة رائعة الجمال بأنك المدينة الحزينة. ولعل الذى كرس هذا المسمى ما مر عليكِ من حزن وفراق عبر مراحل التاريخ، وكأن التاريخ أراد أن يجعلكِ البنت الصغرى لمدن مصر التى تعانى بدلاً من أن تعيش دلال عمرها وجمال شكلها. فقد كنتِ يا مدينتى مدينة الصمود والمواجهة والبطولة منذ أن أنشأكِ الخديو إسماعيل وأنتِ مرهونة بذلك الممر الذى يحمل الروح التى تنبعث منها حياتك وحياة من سكنك، قناة السويس، هذه القناة وأنتِ صنوان للوجود، كل استمد سعادته وشقاءه من الآخر. حين اُحتلت القناة بكيتِ، وحين دارت الحروب على نواصيها جُدتِ بفلذات أكبادك عبر حروب عدة منذ 56، وهنا كان لأشقائك نخوة الوقوف معكِ فى وجه عدوان ثلاثى غاشم ومتجبر، لكن الأخوات الثلاث: «السويس وبورسعيد والإسماعيلية» كانوا قلباً واحداً وقدراً واحداً، أخرجوا نبضات قلوبهم لتصطف فى مواجهة المعتدين والغرباء، قاوموا بأدوات مطبخهم وقاوموا بأرواحهم فانتصروا، وانتصرت مصر. وفى هزيمة 67 كان الجرح أكبر وكانت خيبة السياسيين أفجع، وتتذكرين يا مدينتى أنك توشحت بسواد الحزن وخيبة العار سنين طويلة، وكتب على أبنائك الأبطال أن يهاجروا، ويتركوا الديار والأهل، لكن نخوة ورجولة أبنائك رسمت معايير وقواعد لتلك الهجرة، فقد من العار أن يهاجر الرجال، وإنما ظلوا صامدين حارسين لبيوتهم وحارسين لبواباتك المحتلة وبيوتك المهدومة. وظل القطار المتجه من الإسماعيلية إلى الشرقية وغيرها قطاراً للفراق، وظلت الأرصفة مكتظة بفلذات الأكباد يقف الرجال بشهامة وعناد وفروسية حاملين أطفالهم محتضنين نساءهم حتى مجىء القطار بضجيجه، ليضعوا فيه قلوبهم ويغادروا وليس فى الأفق ولا فى القدر ما كان يضمن أن يلتقى مرة أخرى المفترقون. وكلما تذكرت يا مدينة الرجولة والصمود حكايات أبى، رحمه الله، وهو يقرأ لى فى أذنى شهادات بطولة أبنائك تطوّل عنقى. قال لى أبى ذات يوم: تلك المدينة لا يجب أن تحزن، ولديها مثل هؤلاء الرجال. مدينة كُتب عليها القتال وهو كره لها، فكان خيراً فى أبنائها وخيراً لها فى صفحات التاريخ التى خلدتها. وحين استيقظ المصريون وخاضوا حروب الاستنزاف. كانت تلك الحروب فى أحضانك وفى أحضان شقيقتيكِ السويس وبورسعيد. وكنتِ فى هذه الأيام يراك أبناؤك كطائر أسطورى فرد كلا جناحيه على أبنائه ونام، مدينة تحتضن أبناءها بنفس الحنان الذى تحتضن به الغرباء، ومع كل ضربة كان المصريون يرقّعون جروح عارهم، وكنت يا مدينتى ترفعين رأسك وتهدهدين أبناءك الطيبين. كنتِ ترين ذلك الجدار الذى يقيمه الإسرائيليون على شاطئك الآخر كأنه سكين تقطعك إلى نصفين، وكان التراب بكل ثقله يمتد إلى بؤبؤ عينيك ورغم ذلك، كان أبناؤك الطيبون يمسحون الجفون ويصففون أهداب رموشك كى تبقى مفتحة العينين والقلب. وجاءت لحظة الانتصار، يتذكر أبناؤك أنك ظللت أسبوعاً قبل العاشر من أكتوبر عام 73 تبتهجين فرحاً، تنثرين جدائلك كل صباح بعد أن تغسلى شعرك فى بحيرة التمساح، ثم تبعثرى ذلك الشعر فينثر رذاذاً طيباً على الجميع، كانوا يستغربون ثم أدركوا بعد أن تم العبور أنك كنتِ تعرفين، تعرفين بقلبك لا بعقلك يا مدينتى الطيبة. يقولون إن المدن الطيبة تفهم بقلبها. كنتِ يا مدينتى تخرجين أبناءك من تحت جناحيك واحداً تلو الآخر، تقبلينه، ثم تسلمينه إلى شريانك القناة، يركب قاربه ويجدف نحو الشاطئ الآخر، وكانت القناة تتسلم الواحد تلو الآخر تباركه وتدفعه، ليمر إلى هناك، يعود أو لا يعود. كان الدم المنساب فى القناة دماً معطراً بالياسمين، وكنت يا مدينتى تبكين كثيراً، وحين يتحقق نوع من الانتصار تحاولين جاهدة أن ترسمى ابتسامة، فتخرج قيصرية لكنها كانت تضىء. فى المساء جلست تتسلمين من مياه القناة كشف حساب بأسماء أبنائك الشهداء وكان عنقك يطول السماء. وبعد أيام الانتصار وقفت شامخة تعلنين النصر والفرح، وأنتِ ابنة مصر الصغرى التى كانت أكثر الأبناء ابتلاءً وكانت أكثرهن صبراً وشهامة وشجاعة وأصالة. النكران وبعد كل الذى قدمته عبر تواريخ مصر المؤلمة ظننت وظن أبناؤك الطيبون أن الساكنين فى المركز والعاصمة سيعطونك قدرك، وسيعوضون صبرك وتضحية أبنائك الصابرين، ولكن قوبلت يا مدينتى بأعوام من الجحود ونكران الجميل أنت والسويس وبورسعيد، بل عاقبكم مبارك جميعاً ونكل ببورسعيد لمجرد أن أحد أبناء تلك المدينة تجرأ عليه لينقل إليه شكواه لا ليقتله، فعاقب الجميع لأن فيهم من انفجر وصرخ من الظلم، فأغلق عليهم المنافذ والحياة وهكذا فعل مرسى. وعوقبت يا مدينتى، وهكذا السويس وأصبح أبناؤك الذين خاضوا معارك الشرف والكرامة، الصابرون والرائعون أصبحوا فى نهاية الصفوف، لا يتذكرهم الساسة ولابسو البدل الأنيقة. وهنا أتذكر رواية الصديق الأديب يوسف القعيد «الحرب فى بر مصر» أتذكر مقولته الشهيرة هناك من حارب وهناك من أخذ الغنائم، إنها المعادلة المقلوبة دائماً، فمن الذى يعدلها. من وحى كل مشوارك يا مدينتى نشرت فى التسعينات مجموعة قصصية كانت بعنوان «اختزال فى المسافة والسفر» وفيها كتبت عن حكايات ناسك الطيبين والصامدين، كتبت عن بطولاتهم المنسية، وعن معاناتهم فى التهجير، عن صبرهم وصمودهم. واكتشفت أن كل شخص من أبنائك يستحق رواية بمفرده، وأن ما كتبه الرائع محمود دياب أو غيره هو قليل قليل. السيسى واحد من أبناء مصر غير الجاحدين أراد أن يعطيكِ جزءاً من حقك المفقود فقولى له شكراً، وابتسمى قليلاً، ففى ابتسامتك بعث للحياة جديد. وسامحينى يا مدينتى، فلن أحضر عرسك لأن أبناءك ما زالوا مُهَجرين.