فى 6 يونيو 2006 كتب الجنرال الأمريكى المتقاعد رالف بيترز مقالاً خطيراً فى مجلة «القوات المسلحة» بعنوان: «حدود الدم.. كيف سيبدو الشرق الأوسط بصورة أفضل؟». تاريخ المقال كما هو واضح يسبق العدوان الإسرائيلى الهمجى على لبنان فى 12 يوليو 2006 ومع ذلك فإنه استبق برؤيته حديث كونداليزا رايس عن شرق أوسط جديد يتخلق من رحم الحرب اللبنانية. وقتها كان الظن أن ما يحدث فى لبنان سيمثل شرارة لإعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط على أسس أكثر عدالة بما يتفق مع التكوينات العرقية والمذهبية للمنطقة، وكأن من قام بترسيم تلك الحدود هم نحن العرب وليس الدبلوماسيين الشهيرين «مارك سايكس وفرنسوا بيكو» حتى يحدثنا كاتب المقال عن العدالة المفقودة وعشوائية الحدود. لن أدخل فى تفاصيل خريطة رالف بيترز المعروفة بما يكفى، فقط أشير إلى نقطتين بخصوصها، الأولى أنها بنيت على أساس أن لبنان يمكن أن يكون نقطة الانطلاق من أجل إعادة التشكيل الجغرافى للمنطقة إلى الأفضل، والثانية أن هذا التشكيل الجديد يتحقق بإنصاف «الأقليات» من خلال إنشاء دول مستقلة لها كدولة كردستان الكبرى ودولة شيعستان، ومن المفهوم أن إنشاء هذه الدول سيتم على حساب حدود الدول القائمة حالياً مثل سوريا أو العراق أو حتى إيرانوتركيا وأفغانستان. وقد ختم «بيترز» كلامه بالقول: «سيستمر جنودنا رجالاً ونساء فى الحرب من أجل الأمن والسلام ضد الإرهاب، من أجل نشر الديمقراطية، ومن أجل حرية الوصول إلى منابع النفط بمنطقة مقدر لها أن تحارب نفسها»، ولو تركنا الحرب المزعومة على الإرهاب الذى لم يتضخم إلا بعد غزو العراق والتدخل الدولى فى ليبيا وسوريا، وتركنا الحرب من أجل الديمقراطية التى كانت هدف الإطاحة بصدام فإذا بالطائفية المقيتة تحصد حياة الآلاف من أهل العراق، لا يتبقى فعلياً إلا هدف حرية الوصول لمنابع النفط وهو هدف لا يتحقق إلا بحرب المنطقة على نفسها، كما قال «بيترز». اليوم عاد الحديث يتردد بقوة عن تغيير خريطة الشرق الأوسط، الفارق الوحيد مع مشروع عام 2006 أن نقطة الانطلاق المنتظرة تكمن فى دمشق وليس بيروت، فمن خضم التفاعلات الجارية على أرض الشام تبدأ الترتيبات ل«شرق أوسط جديد ومختلف»، وياله من اختلاف. قضيت الفترة الأخيرة فى مطالعة ما يسميه البعض عصفاً ذهنياً حول مآلات الشرق الأوسط وفى قلبه وطننا العربى، وأمكن لى أن أخلص، تعليقاً على هذا العصف الذهنى، بملاحظات ثلاث أساسية. الملاحظة الأولى أن البعض تعامل مع هذه اللحظة باعتبارها فرصة تاريخية للتمدد، وفى هذا الخصوص دار نقاش على صحيفة الدستور الأردنية منذ شهر مارس الماضى حول فكرة توسع المملكة الأردنية الهاشمية. وكتب ماهر أبوطير مقالتين إحداهما بعنوان: لماذا لا تكبر المملكة؟ والأخرى بعنوان: مملكة عربية جديدة عاصمتها عمان، وكان منطقه أن الحرب الدائرة فى سوريا والتطورات التى يشهدها العراق لن تترك أياً من الدولتين على حالها وأن «الحنين العراقى والسورى والفلسطينى للهاشميين على أشده.. وللهاشمية السياسية جذور فى كل دول الجوار»، لا بل قال ما هو أخطر من ذلك إذ اعتبر أن هذا التوسع هو البديل «لخطر التخريب والزوال سياسياً لا سمح الله»، وسخر ممن انتقدوا فكرته إما لأنها تنطوى على تمدد على حساب دول الجوار أو لأنها تحمل الأردن أعباء فوق طاقته البشرية والاقتصادية. مثل هذا الطرح حتى بالحسابات البراجماتية التى يدعيها صاحبه يغفل أن التلاعب بالحدود الجغرافية أمر فى منتهى الخطورة لأنه فى اللحظة التى سوف يبرر فيها أحدهم تجزئة دول الجوار لن يجد ما يدحض به تبرير الآخرين للتوسع على حسابه، وفى حياة كل الدول منحنيات تاريخية صعوداً وهبوطاً فأن تكون لحظات الضعف مبرراً للتجزئة والتشطير فهذا يعنى ألا تبقى دولة على حالها، وبالمناسبة فإن فكرة تمدد الأردن وردت فى خريطة رالف بيترز؛ ما يجعلها جزءاً من المخطط الدولى لإعادة رسم خريطة المنطقة. الملاحظة الثانية أن بعض من تحدثوا عن إحياء النظام العربى تناولوا الأمر من زاوية تغييب الهوية العربية لهذا النظام وتربطه بأحلاف إسلامية. وفى مقال بجريدة «الأخبار» اللبنانية كتب «ناهض حتر» فى 2 يوليو الحالى مقالاً بعنوان «المعجزة السورية.. أسرار سين سين والواقع الميدانى»، خلص منه إلى أن صمود الجيش السورى منذ أربع سنوات من جهة والمشاكل التى تواجه كلاً من السعودية وتركياوالأردن من جهة ثانية وتصاعد معاناة مصر من الإرهاب والمشكلة الاقتصادية من جهة ثالثة عوامل تدفع لقيام «حلف سورى سعودى تركى أردنى» لمحاربة الإرهاب بوحى من مبادرة روسية بهذا الشأن. لن أناقش لماذا تحدو مشاكل بعض الدول إلى التعاون المشترك فيما تفرض مشاكل مصر تهميشها، ولا كيف لسوريا أن تدخل فى حلف مع تركيا فيما هى ترتبط مع إيران بتحالف لا ينفصم، سؤالى هو: منذ متى كان إحياء النظام العربى يمر عبر التحالف مع دول الجوار؟ وأين موقع هوية النظام وعقيدته العربية من طرح كهذا؟ الملاحظة الثالثة والأخيرة أن ثمة كلاماً كثيراً بات يتردد عن دولة كردستان من حيث مدى جدارتها بالقيام وماهية حدودها ودور تركيا فى منع قيامها مقابل تحمس الولاياتالمتحدة لها، فى تكرار أيضاً لما سبق أن قاله «بيترز»، وقد أثار حوار محمد حسنين هيكل مع صحيفة «السفير» اللبنانية -مؤخراً- لغطاً مستحقاً عندما تطرق لهذه النقطة الحساسة بما يستقى منه تفهمه قيام دولة كردية، ولم أكن أحب للصحفى الكبير أن يتناول هذا الموضوع فى مرحلة كثر فيها الهرج واختلطت الأوراق بما يكفى ويفيض، وفيما يخص كردستان العراق التى تعنينا كعرب فإنها تمارس أقصى درجات الاستقلالية عن المركز بما يسقط أى مبرر للانفصال. موضوع الشرق الأوسط وخرائطه هو الموضوع الذى يستحق اهتمامنا، والدفاع عن عروبتنا هو قضيتنا الأساسية، وتحديد علاقتنا بدول الجوار أمر لا غنى عنه وذلك كى لا نفاجأ بأن ما لم يتحقق فى 2006 قد وضع أوزاره فى 2015.