قُبيل أذان الفجر بدقائق، جلس بين أصدقائه يتناول السحور تحت ضوء القمر وسحب من مِخلته زمزمية شرب منها ما يروي العطش حتى مغرب يومه، وهمَّ باستلام خدمته في كمين "أبو رفاعي" في شمال سيناء. «عبد الودود» قرأ إلى الآن 14 جزءًا في كتاب الله، فهو يحرص كل يوم على قراءة جزء لختم القرآن نهاية الشهر الكريم.. تتسرب الشمس من خلف الجبل مُعلنة بداية يوم جديد، وفي يد «عبد الودود» مصحفه وعلى صدره سلاحه، وصوته العذب في تلاوة القرآن حبب إلى زملاء دفعته مجالسته فرافقه في خدمته صديقه «محمد» الذي يحرص على الاستمتاع بقراءة صديق الجيش. بالأمس، أمَّ «عبد الودود» بالجنود والضباط في الكمين، ورتَّل على مسامعهم قول الحق: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه»، وعقب أدائهم الصلاة، دعا الله أن يحفظ مصر من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وخلد إلى النوم حتى موعد السحور. اشتدت الشمس الحارة على رؤوس الجنود في الصباح، فاخترقت جباههم وأجسادهم وعند قول المولى عز وجل «إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ» أغلق «عبد الودود» مُصحفه، وحشره برفق في مخلته بين صورته مع والده المُسن الذي حدثه ليلًا وطمأنه عليه وعلى مصر، وصورته مع خطيبته التي تنتظره على مدخل القرية كل إجازة. في لحظة غادرة، انهال الرصاص على رأس «عبد الودود» من كل حدب وصوب، والذي اغتاله محض لص سرق النور من بين عينيه، ليس أنبل منه ليقتله بسكينته، ليس أمهر منه ليقتله باستدارة ماكرة.. دماء «عبد الودود» الطاهرة اختلطت بدماء «ميناء» ابن قريته، كانا معًا يحميان الأرض والعرض، كانا على بوابة مصر الشرقية يصدان عن بلديهما أنياب الضِباع. في لحظة، تداعت كل الصور أمام عيني «عبد الودود»، امتزاج وجوه المهرجين والحواة وملامح الصبية وألوان البيارق والأعلام في مولد «الحسين».. «موائد الرحمن» في شوارع القاهرة العامرة بالمودة والحب والإيمان، «صلاة التراويح» خلف شيخ جليل، «آثار الأزهر» الإسلامية التي تحفظ التاريخ بين جنباتها، خُضرة الوادي وسمار أسوان وزرقة الإسكندرية وصحراء سيناء. غاب عن الدنيا ولم يدر بما حدث للجنود، التحم جسده بأجساد زملائه في الكمين واختلط دمائهم الطاهرة على أرض الفيروز، وفي لحظة سكينة تسلل صوت البحر إلى أذنه وشعر لأول مرة ببرودة أطرافه، واعتدل في جلسته، وصافح أنبياء الله وشهدائه وهمَّ بتناول الإفطار معهم، وأوصى المرابطين على الجبهة ب«أبيات نجم»: «واه يا عبد الودود، يا رابص ع الحدود، ومحافظ ع النظام، كيفك يا واد صحيح، عسى الله تكون مليح، وراقب للأمام، امك ع تدعى ليك، وع تسلم عليك، وتقول بعد السلام، خليك جدع لأبوك، ليقولوا منين جابوك، ويمسخوا الكلام، ع اقولك وأنت خابر، كل القضية عاد، ولسه دم خيَّك ما شرباش التراب، حسك عينك تزحزح يدك عن الزناد، خليك يا عبده راصد لساعة الحساب، آن الأوان يا ولدى ما عاد إلا المعاد، تنفض الشركة واصل، وينزاحوا الكلاب».