تحل بعد أيام الذكرى الثانية لانتفاضة الثلاثين من يونيو. لا أعتبر الثلاثين من يونيو ثورة، ليس من قبيل التقليل من شأنها، ولكن لأننى لا أعتبر الخامس والعشرين من يناير ثورة أصلاً، فالثورة أكثر من مجرد خروج الناس للشارع احتجاجاً، ولكنها انقلاب شامل على الأوضاع القائمة واستبدالها بأخرى جديدة، الأمر الذى لم يحدث لا فى يناير ولا فى يونيو. خرج الناس فى المرتين زهقاً من الأوضاع القائمة، ولكنهم فى المرتين لم تكن لديهم أى فكرة عما يجب عمله فى اليوم التالى، كما لم تكن لهم القيادة التى ترسم لهم الطريق وتقودهم لتحقيق الهدف. انتفض الناس ضد «مبارك» فوقعوا فى حكم الإخوان، ثم انتفضوا ضد الإخوان فابتهجوا لزوال الكابوس، وكانت سعادتهم بهذا الانتصار أكبر كثيراً من أن تسمح لهم بالتفكير فيما يأتى بعد ذلك. تم انتخاب «السيسى» لرئاسة البلاد فى الذكرى الأولى للثلاثين من يونيو، غير أن رئاسة السيسى لمصر لم تكن فى ذهن أحد ممن انتفضوا ضد حكم الإخوان قبل ذلك بعام، ولم يكن عبدالفتاح السيسى نفسه يفكر فى رئاسة مصر يوم وجه للإخوان إنذاره الشهير، حتى إننا وجدنا الرجل يتردد كثيراً قبل أن يقبل الترشح لرئاسة البلاد. الخامس والعشرون من يناير مثلها مثل الثلاثين من يونيو هى قفزات فى الهواء قام بها شعب يعرف ما لا يريده، لكنه لا يعرف بنفس القدر من الوضوح ما يريده، وهى أزمة قيادة ونخبة قبل أن تكون أزمة شعب، فما لم تتقدم الصفوف قيادات سياسية قادرة على رسم الطريق، فإن الجماهير القادرة على الرفض والغضب لن ترسم لنفسها طريقاً، فهذا أمر فوق طاقتها، ولكنها ستتبع من تتوسم فيه خيراً وجدارة على تبوؤ موقع القيادة. هذا هو ما فعله الناس فى المرة الأولى عندما انتخبوا الإخوان فندموا قبل مرور العام، وهو نفس ما فعلوه فى المرة الثانية عندما انتخبوا السيسى، فكان قرارهم صائباً هذه المرة. الحديث عن اختيار الناس للإخوان ثم عبدالفتاح السيسى فيه قدر كبير من المبالغة وعدم الدقة، فالناس لم تختر الإخوان، ولكنهم كانوا مضطرين لانتخابهم عندما لم يجدوا أمامهم من القوى السياسية والأحزاب من تبدو عليه ملامح الجدارة والقدرة سوى التنظيم العتيق. عبدالفتاح السيسى، على الجانب الآخر، كان مرشح الضرورة، فلا المرشح الذى نافسه فى الانتخابات كان لديه من القدرات ما يؤهله لقيادة البلاد فى مرحلة مضطربة، ولم يكن هناك على الساحة السياسية كلها من هو أفضل حالاً من حمدين صباحى، كل هذا والبلد يواجه امتحاناً كبيراً يحتاج فيه لقيادة تحظى بقبول الناس ودعم المؤسسات، فكان عبدالفتاح السيسى. الخامس والعشرون من يناير مثل الثلاثين من يونيو، كلاهما تعبير عن أزمة السلطة والحكم المستحكمة فى مصر منذ عقود طويلة. الخامس والعشرون من يناير كان تعبيراً عن وصول نظام مبارك -ومعه نظام يوليو- إلى مرحلة الأزمة التى ليس لها حل، فكان السقوط. الثلاثون من يونيو جاء نتيجة للفشل السريع للمشروع الإخوانى، فكان السقوط أيضاً. علمتنا التجربة أن صيغة مبارك صيغة فاشلة ليس لها مستقبل، وأن الصيغة الإخوانية لا تقل فشلاً عنها، لكننا لم نستقر بعد على الصيغة المناسبة القادرة على إنهاء أزمة الحكم والسلطة المزمنة. عبدالفتاح السيسى هو الرئيس المناسب لمصر فى هذه المرحلة، وأداؤه فى العام الأول من رئاسته يؤكد صحة حدس المصريين الذين انتخبوه قبل عام. لكن السيسى لم يؤسس نظاماً سياسياً جديداً بعد، وما زال الرجل يدير البلاد منفرداً، معتمداً على الجيش لتسريع الإنجازات، فيما البيروقراطية الحكومية تقاوم الإصلاح متسلحة بالكسل وعدم الكفاءة والقوانين البالية، والنخب الحزبية موغلة فى الانقسام والفردية والمصالح الذاتية. وإذا أردت أن تتأكد بنفسك ما إذا كانت أزمة الحكم والسلطة إياها ما زالت تمسك بالبلاد من رقبتها فحاول أن تتخيل المشهد الذى ستكون عليه البلاد بعد سبع سنوات من الآن عندما تنتهى فترة الرئاسة الثانية للرئيس السيسى، فنجد أنفسنا مضطرين لانتخاب رئيس ضرورة جديد. وحتى نصل إلى مرحلة نختار فيها الرئيس من بين مرشحين متعددين لديهم من الكفاءة والشعبية ما يجعل حظوظهم متقاربة، وحتى نصل إلى مرحلة لا تكون فيها نتيجة الانتخابات معروفة سلفاً بسبب الفارق الكبير بين إمكانات المرشحين المتنافسين، فإن أزمة الحكم والسلطة فى بلادنا ستظل قائمة. الثلاثون من يونيو ورئاسة السيسى هى الفرصة التاريخية التى جاءت لمصر والمصريين لإدراك ما فاتهم، فهل ننتهز الفرصة؟ لقد حصلنا فى الثلاثين من يونيو على فرصة جديدة لتجنب السقوط تحت حكم الفاشية الدينية، حتى بدا الأمر كما لو كانت الثلاثون من يونيو وما تبعها مثل «الملحق» الذى يتاح فيه للطالب فرصة ثانية لدخول الامتحان بعد أن فشل فى المرة الأولى. كان دور عبدالفتاح السيسى تاريخياً ولا غنى عنه يوم أصدر الإنذارين الشهيرين، ويوم قرر عزل الرئيس الإخوانى فى الثالث من يوليو، فهل يواصل عبدالفتاح السيسى دوره التاريخى، و«يكمل جميله» بأن يقود البلاد خارج دائرة أزمة الحكم والسلطة الجهنمية؟ وهل سيشرع فى عامه الثانى فى السلطة فى تأسيس نظام سياسى جديد ينظم تداول السلطة والتوالى عليها، ويعفينا من السقوط فى فخ الإخوان الذى سيصبح فى المرة المقبلة فخاً داعشياً؟ المطلوب فى هذا المجال كثير، وأكبر بكثير من مجرد تنظيم انتخابات مجلس النواب، فهل نحن جديرون بالحلم، وهل قيادتنا مستعدة للوفاء؟