فتح تقدم المعارضة المسلحة (لا أسميها السورية لأن مكونها غير الوطنى شديد الوضوح) فى معارك الساحل السورى، وسيطرتها على مدينة إدلب ومن بعدها مدينة جسر الشغور الاستراتيجية، فتح شهية المحللين للحديث عن قرب سقوط نظام الأسد. ومنطقهم فى ذلك أن اقتراب المعارضة المسلحة من مدينة اللاذقية -التى تبعد عنها مدينة جسر الشغور ب70 كيلو لا أكثر- يعنى ملامسة عَصَب النظام ومعقل تأييده الطائفى، وعلاوة على الدلالة الميدانية لمثل هذا التطور فإن دلالته النفسية أشد على قوات النظام السورى التى أطلقت قبل شهرين معارك لاستعادة السيطرة على الجبهة الجنوبية فلم تخسرها فقط، بل تراجعت بشكل واضح على الجبهة الشمالية. وهكذا كتب حازم صاغية عن الاستعداد للاحتفال ب«الاحتمال الكبير»، يقصد بذلك سقوط الأسد وانتهاء أسطورة بشار الذى لا يرحل، بل انتشرت يوم الثلاثاء الماضى شائعة تفيد مقتل بشار الأسد فعلاً. عندما ندقق فى المبررات التى يسوقها المحللون للتدليل على اقتراب ساعة الحسم يلفت نظرنا أن هناك تضخيماً فى عوامل تقدم المعارضة وعلى رأسها العامل المتعلق بتوحد فصائل المعارضة الإسلامية. فلقد تشكل كيان موحد أطلق عليه «جيش الفتح» من عديد من الفصائل التى سبق أن تقاتلت وتعاركت، ومن خلال هذا التوحد تحققت الإنجازات العسكرية فى إدلب وجسر الشغور. والواقع أننا هنا يجب أن نميز بين التوحد لتحقيق هدف محدد هو السيطرة على بعض المعاقل الحصينة للنظام وبين بروز التمايزات بين الفصائل المتحدة فور تحقق هذا الهدف. إذ كيف يمكن أن نتصور أن مسلحين من الشيشان وباكستان وأفغانستان وأمريكا وأوروبا فضلاً عن سوريا ودول عربية عديدة يمكن أن يتكلموا لغة واحدة؟ من المضحكات المبكيات أن الحزب التركمانى الذى كان صاحب الإنجاز الأكبر فى معركة جسر الشغور أعوزته اللغة العربية لطلب النجدة ولم يحل الموقف إلا مبادرة بعض المقاتلين الشيشان ممن يتحدثون العربية! لكن الأمر أعقد كثيراً من الحديث عن غياب وحدة اللغة بمعناها الحرفى إلى غياب اللغة بمعنى المصالح المشتركة. أربع سنوات من الحرب الضارية فى سوريا ولدت أمراء حرب ومصادر للارتزاق وجعلت الانتصارات تباع وتشترى، فليس خافياً مثلاً ما تردد عن الصفقة التى سلمت بمقتضاها جبهة النصرة إلى تنظيم داعش مخيم اليرموك ليكون شوكة فى خاصرة النظام، ف«داعش» يملك المال من حصيلة بيع النفط للخارج عبر تركيا، و«النصرة» أقل غنى؛ فتمت المقايضة بنجاح، هذا من جهة. ومن جهة أخرى ورغم نشوء «جيش الفتح» من عدة فصائل مسلحة فإن هذا لا ينفى أن لكل واحد من تلك الفصائل مواقع نفوذه وسيطرته، ف«داعش» له نفوذ فى الرقة والحسكة ودير الزّور وحمص ودمشق وريفها، و«النصرة» لها نفوذها فى إدلب وجسر الشغور وحلب ودرعا وحمص، وأحرار الشام (الإخوان المسلمون) لهم نفوذهم فى بعض مناطق هيمنة «داعش والنصرة»، والتنظيمات الفسيفسائية تنتشر وتتخلل كل المحافظات السورية، وفور تحقق «الاحتمال الكبير» سيرتد كل فصيل إلى قاعدة نفوذه. يذكر أنه بعد أيام من السيطرة على جسر الشغور نشرت تنسيقية جسر الشغور على موقع «فيس بوك» إعلاناً عن انفصالها «بشكل كامل» عن اتحاد تنسيقيات الثورة السورية بسبب «تسلط بعض أعضاء مجلس الإدارة على الإعلام» وتسخيره لخدمة «مناطقهم دون غيرها»! هذا، ويعلق المتحدثون عن اقتراب ساعة الأسد آمالاً كبيرة على انفصال جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة المصنف إرهابياً مما يعزز تقاربها مع بقية الفصائل، لكنهم يعترفون أن هذا الموضوع محل خلاف داخل النخبة كما يقول بذلك على باكير مثلاً، وهذا معناه فعلياً أن «النصرة» معرضة هى نفسها للانشقاق إلى قسم مع القاعدة وقسم آخر ضدها. ومع أن ما سوف أقوله لا علاقة مباشرة له بمستقبل النظام، فإن المرء ليعجب من أن تكون العلاقة مع القاعدة مثار خلاف داخل «النصرة» بينما أن تلقى ثلاثة من أعضاء «النصرة» العلاج داخل إسرائيل ليس موجباً لانشقاق داخلها. ومعلومة علاج رجال النصرة فى إسرائيل تم تدقيقها بواسطة المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وهذا فقط يعطينا فكرة عن بعض أقوى بدائل بشار. من جهة ثالثة فإن سقوط بشار شىء وسقوط نظامه شىء مختلف تماماً، فلن يستطيع أحد أن يقضى على القاعدة العلوية لهذا النظام لأن العلويين جزء أساسى من النسيج السورى وإن كانت نسبتهم لا تتجاوز 12 فى المائة من السكان، واجتياح اللاذقية بدعم لوجيستى تركى ستكون له ارتداداته على تركيا التى يوجد فيها قرابة 600 ألف علوى قد يوفرون لعلويى سوريا ملاذاً آمناً للتحرك بعد سقوط بشار، هذا طبعاً دون الحديث عن حلفاء النظام وأجهزة استخباراتهم والذين لا يتوقع أن يحملوا عصاهم ويرحلوا بسهولة عن أرض الشام. تبقى الإشارة إلى القضية الكردية التى تأخذ أولوية على أجندة الولاياتالمتحدة سواء فى سوريا أو العراق، وقد بدأ الحديث يتكرر عن الدولة الكردية وهذا يضفى تعقيدات لا آخر لها على المشهد السورى ويعيد تموضع تركيا فى داخله. ما سبق كان محاولة لِلَجْم التوقعات بقرب الحسم فى سوريا. هذا إن كان إسقاط بشار نفسه ينطوى على أى نوع من الحسم. أتمنى من كل قلبى أن يكون فى المسار السياسى حل للمشكلة السورية، وأن تدرك معارضة الداخل أهمية المكون الداخلى، وأن تتنبه دول الجوار إلى أن ثعابين الفصائل المسلحة سوف تلدغها فور شعورها بالدفء وأن اللعب بالورقة الطائفية «كارت حارق».. أتمنى أن يكون فى هذا النظام رجل رشيد يبصّر «بشار» بمخاطر أكبر من أى حين ترقد فى انتظاره.