عجيبة هى الدبلوماسية المصرية، تضيع فرصة ذهبية للوقوف فى وجه تركيا، ثم تستخدم أساليب التلاميذ فى ردة فعل لا تتناسب مع الفعل الذى يستهدف مصر دائماً فى كل المناسبات، خاصة الجماهيرية منها، القاهرة تكتفى بالصمت على أسئلة عدم مشاركتها فى الذكرى المئوية لإبادة الأرمن نهاية أبريل، فى حين يستفزها رئيس الوزراء التركى «داود أوغلو» بتصريحات نارية مثلما يفعل رئيسه «أردوغان» مراراً وتكراراً، فتلجأ إلى التصريحات الغبية التى لم تعد تمثل شيئاً بعد أن تجاوزتها الوقائع ومسار العلاقات ومعادلة القوى فى الإقليم، فتقول لأوغلو مثل نساء فى حارة: «سئمنا من التدخل التركى فى الشأن الداخلى المصرى، وعليك الالتفات إلى شأنكم الداخلى والقمع الممنهج لحقوق الإنسان، والاعتراف بما ارتكبته بلادكم من جرائم فى حق الأرمن منذ قرن مضى».. وكأن إبادة الأرمن لم تكن فى الذاكرة الرسمية المصرية وتذكرتها مؤخراً عندما انتقدها «أوغلو»، فكان الرد الإنشائى ل«خارجية سامح شكرى وبدر عبعاطى» الذى لا يمثل أى معنى أو تأثير لأن الحدث تجاوزه، فسامح شكرى وعبعاطى ومن ورائهما السلطة «برموا الكحك بعد انتهاء العيد»..!! «إبادة الأرمن» هى الملف الأكثر إزعاجاً للسياسة التركية، فهى بمثابة ورقة يستخدمها الجميع ضد الأتراك فى كافة المناسبات، خاصة الخلافية منها، ملف الأرمن هو المسألة التى تلاعب بها أوروبا والولايات المتحدة الأتراك، انظروا اعتراف بابا الفاتيكان والتصريحات الصادرة من عدة دول أوروبية والضغوط الفرنسية الدائمة وغيرها مما يدخل فى عرف الدبلوماسية من أوراق تمنح قوة على موائد التحالف أو إدارة الصراع أو التدجين أو التسليم أو الندية، وكافة ما سبق لم تنشغل به القاهرة، فقد كنا نظن أن إدارة مسألة الأرمن مع تركيا ستأخذ اتجاهاً آخر فى ظل الكراهية البادية من النظام التركى للنظام المصرى والمسار الذى اختاره المصريون فى 30 يونيو، وانتظرنا أن تكون مئوية ما يوصف ب«إبادة الأرمن» مناسبة لتوجيه لطمة إلى تركيا، غير أن الرياح جاءت بما لم يتوقعه أحد «غياب مصرى رسمى عن حضور الفعاليات فى يريفان»، وحتى السفير فى أرمينيا لم يكلف نفسه حتى بحضور رمزى أو وضع وردة على نصب تذكارى التأم حوله عشرات الآلاف، على رأسهم بوتين وأولاند، كنا نظن أن القاهرة لديها حسابات تتعلق بتهدئة ما مع أنقرة أو أن مياهاً جديدة جرت فى ملف العلاقات على خلفية «عاصفة الحزم» والتقارب على أرض «الرياض»، ولكن خابت الظنون سريعاً، فالرد على «أوغلو» أظهر مأزق «الخارجية» ومن ورائها سلطة صناعة القرار، فلم تستغل فرصة دولية كبرى لتوجيه رد قاسٍ للأتراك، وانتظرت لكمة جديدة من الأتراك «جاءتها هذه المرة من أوغلو»، وردت عليها رداً هزيلاً ب«التكشير والغضب» فى إخراج طفولى لم تقبله عقول وعيون شاهدت كيف يدير العالم علاقته مع تركيا من خلال هذا الملف! ولنسأل: لماذا حضرت الإمارات والعراق والكويت لفعاليات المئوية ووضع ممثلوها الورود على النصب التذكارى لضحايا الإبادة..؟! قد نقول إن القاهرة لم تكن مقتنعة بما يروج له الأرمن، أو أنها ترفض المبالغة فى استخدام كلمة الإبادة، أو أنها تدير علاقتها بحياد مع أرمينيا حتى لا تغضب أذربيجان مثلاً، ولهذا ولذاك رفضت المشاركة فى الفعاليات لدرجة أن البابا تواضروس كان يتهرب من أسئلة المشاركة الرسمية لأنها لا تخصه، ولم تخرج أى بيانات رسمية عن المناسبة وكأنها لا تهمنا فى شىء، ومرت وكأننا فى سلام مع تركيا أردوغان وانتهت السجالات بيننا، ما حدث يؤشر إلى هزل القرار الدبلوماسى والحسابات الخاطئة وغيبة التقدير، فلم يطلب أحد من مصر الاعتراف بإبادة الأرمن، بل أراد أن تسجل هدفاً فى مرمى من يحاصرنا ليل نهار ويتدخل فى شئوننا رغم أنه غارق فى دوامة أوهام الإمبراطورية والاستبداد، للأسف لم أعد أثق فى أى مؤسسة، فالأداء لا يدفع إلى الأمام، بل يجرنا إلى الخلف، لنا الله، وأهلاً بشكرى وعبعاطى فى وحل التراجع..!!