الصراع الراهن بين السنة والشيعة يجعل الشرق الأوسط يبدو كما لو كان لم يبارح القرن الأول الهجرى عندما نشبت الحرب بين معاوية وعلى بن أبى طالب، فانقسم المسلمون بين مناصرين لمعاوية ومشايعين لعلىّ. عندما تحرر قوات تابعة للدولة العراقية مدينة تكريت من سيطرة داعش، فتقوم ميليشيات الحشد الشعبى الشيعية المتحالفة مع الجيش العراقى بقتل السنة وتهجيرهم وحرق ممتلكاتهم، فالحيرة تنتابك عما إذا كانت هذه الحرب تجرى بين الدولة العراقية والإرهابيين المارقين عليها، أم أنها حرب بين السنة والشيعة، وعما إذا كانت الدولة فى العراق تحكم باسم العراقيين جميعاً، أم باسم شيعة العراق وحدهم، وما إذا كان أهل الحكم فى العراق راضين عما تقوم به الميليشيات الشيعة، أم أنهم مغلوبون على أمرهم لأن الطائفة فى بلادهم أقوى كثيراً من الدولة؟! الصراع الراهن خليط فريد من السياسى والدينى. الطوائف فى منطقتنا حقيقة قديمة لا يمكن إنكارها، وهذه حقيقة اجتماعية ودينية. ولأبناء الطوائف مطالب تتعلق بالحق فى الكرامة والتمتع بمعاملة متساوية دون تمييز، وبنصيب عادل من الثروة والسلطة، وهذه حقيقة سياسية. والانتماء للطائفة يتجاوز حدود الوطن، وهو الانتماء الذى تقوم قوى إقليمية متصارعة بتوظيفه بما يخدم مصالحها، وهذه حقيقة إقليمية واستراتيجية. التداخل بين الاجتماعى والدينى والسياسى والإقليمى والاستراتيجى هو ما يكون لنا الصورة المعقدة الراهنة. التحدى الذى يواجهنا هو أنه مطلوب منا التعامل مع كل هذه الجوانب دون أن يؤدى تعاملنا مع أحد جوانبها إلى زيادة تعقيد الجوانب الأخرى، وهو أمر شديد الصعوبة. فتحسين وضع الأقليات الدينية فى بلادنا يواجه بمعارضة من جانب متشددين طائفيين ينظرون للآخر الدينى باعتباره كافراً لا يستحق الوجود أصلاً. هذا هو ما يشعر به المتشددون الطائفيون السنة فى بلاد الأغلبية السنية، وهى نفس الطريقة التى ينظر بها المتشددون الطائفيون الشيعة لأهل السنة فى بلاد الأغلبية الشيعية. قد يكون من الممكن لحكومة سنية معتدلة قمع المتشددين السنة تسهيلاً لدمج الشيعة من مواطنيها فى كيان الدولة، لكن هل ستقوم الحكومات الشيعية بالشىء نفسه، أم أنها ستواصل دعم سياسات الحشد الطائفى، فينتهى الأمر بإضعاف التضامن الطائفى بين أهل السنة فيما يواصل الشيعة تعزيز مواقعهم؟ التوظيف والتلاعب الإيرانى بالشيعة العرب يزيد الأمر تعقيداً فوق تعقيد. لقد استطاعت طهران تقديم نفسها لشيعة العرب باعتبارها المنقذ الذى يتبنى قضاياهم ضد الاضطهاد والتهميش التاريخى الذى مارسه ضدهم أهل السنة. فهل يؤدى تحسين أوضاع الشيعة العرب فى بلادهم لفصم العلاقة بينهم وبين إيران وتعزيز ولائهم لدولهم العربية؟ أم يؤدى إلى تمكين عملاء إيران وتابعيها من التغلغل وتعزيز النفوذ فى بلاد أهل السنة، فنكون كمن يتخلى عن سلاحه فى مواجهة عدو يسعى لإيذائه؟ هذه هى الأسئلة الصعبة التى تواجه حكومات عليها إدارة هذا الملف شديد التعقيد، ولا بديل عن التقدم فى جميع الاتجاهات فى وقت واحد بحساب دقيق. فلا بد من إضعاف المتطرفين الطائفيين من أهل السنة للقضاء على أحد أسباب التطرف الشيعى، فلا شىء يعزز شوكة التطرف لدى أحد الأطراف سوى التطرف على الجانب الآخر المعادى. إضعاف المتطرفين بين أهل السنة ضرورى ليس فقط من أجل عيون الشيعة، ولكن من أجل مصلحة أهل السنة أنفسهم، فتعصب المتطرفين لا يقف عند حدود العداء للشيعة، ولكنه يشمل جميع المخالفين لهم، بمن فيهم أبناء السنة أنفسهم. على جانب آخر فإنه لا بد من فصم العلاقة بين إيران والمسلمين الشيعة من العرب. فالمصلحة القومية الإيرانية هى الدافع الرئيسى لقادة إيران، أما تخفى هؤلاء تحت ستار الطائفة لكسب ولاء الشيعة العرب فهو من قبيل المخاتلة والتلاعب الذى يقع فيه بسطاء الناس فى سهولة شديدة. فالحقيقة التى لا يعرفها الكثيرون هى أن إيران كانت فى أغلبها سنية حتى القرن السادس عشر، وأن تحويل الإيرانيين إلى التشيع حدث بقرار سياسى اتخذه شاه إسماعيل أحد ملوك الدولة الصفوية الأوائل فى إطار الصراع مع الدولة العثمانية المجاورة، وأن الإسلام الشيعى قد تغير كثيراً على يد الدولة الصفوية لخدمة أغراض سياسية، فدخل فيه كل ما يعمق الفجوة والعداء بين السنة والشيعة، بما فى ذلك تقاليد لعن الخلفاء الراشدين والصحابة والسيدة عائشة، وحتى يومنا هذا فإنه ما زالت هناك اختلافات مهمة بين مدارس الفقه الشيعى الفارسى المتمركزة فى مدينة قم الإيرانية، وبين مدارس التشيع العربى ومركزها فى النجف الأشرف بالعراق. لقد استطاعت إيران والفقه الشيعى الفارسى تحقيق اختراقات فى مدرسة النجف حتى جعلت بعض علمائها مجرد أتباع للسياسة الإيرانية بفضل الإغراءات السخية والضغوط الشديدة. غير أن البعض الآخر من مدارس التشيع العربى العراقى ما زالت تقاوم الهيمنة والتبعية لإيران، ويمثل الفقيهان مقتدى الصدر وكمال الحيدرى أشهر رموز مقاومة شيعة العراق ضد الهيمنة الإيرانية، فهل نستطيع التمييز فى الفكر والعمل بين تشيع يتم توظيفه لتحقيق أغراض سياسية صريحة، وبين تشيع أصيل لأبنائه مطالب سياسية واجتماعية أصيلة نابعة منهم، لكنها ليست مطية يتم توظيفها لخدمة المصالح القومية لدولة فارس؟ وهل يمكن لقادة العرب السنة العمل على كسب ثقة وتعاون الأصلاء من الشيعة العرب لمحاصرة نفوذ إيران وأتباعها؟ وهل يمكن لنا الإقرار بحقوق سياسية واجتماعية للشيعة العرب يتم تحقيقها على أرض الواقع تدريجياً لتعزيز مناعة هؤلاء ضد نفوذ إيران والمتطرفين الطائفيين من الشيعة؟ أهل السنة فيهم الكثير من التنويعات بين سلفيين وجهاديين وصوفية ومعتدلين، وبين الشيعة تنويعات مماثلة. فهل يمكننا كسب ثقة الشيعة العرب الأكثر اعتدالاً ووطنية لمحاصرة نفوذ المتطرفين وعملاء إيران؟