ما يحدث للشعب العراقي على أيدي الاحتلال وأعوانه هو جريمة في حق الإنسانية... ما تنقله القنوات الأجنبية من أخبار ومشاهد القتل والتشريد والخطف الطائفي في العراق هو جريمة في حق الإنسانية... ما يتعرض له المعتقلون العراقيون من أنواع التعذيب كاقتلاع العيون وأسنان السجناء وبعد ذلك قتلهم هو جريمة في حق الإنسانية...ما ينقله المخلصون من الشعب العراقي إلى العالم من أن المستشفيات أصبحت ملآى بالجثث وأن أهاليهم قد فرطوا في جثث ذويهم خوفا من أن يكون مصيرهم هو مصير هذه الجثث هو جريمة في حق الإنسانية، وعندما تصير المستشفيات وكراً للتعذيب والقتل لا مكاناً للعناية بالإنسان وصحته فهذه جريمة في حق الإنسانية.
هذا غيض من فيض لما يتعرض له الشعب العراقي من إبادة على يد الاحتلال الأمريكي وعملائه.
والسؤال الذي يطرح ما سبب هذه الفوضى العارمة في العراق ؟
إن الشعب العراقي الآن يواجه العديد من "الاحتلالات" إن صح التعبير وليس احتلالا واحداً ، فهو يواجه الاحتلال الأمريكي والبريطاني ،ويواجه عملاء الاحتلال ،ويواجه التدخل الإسرائيلي الممثل في الموساد، ويواجه التدخل الإيراني المفضوح ،وعندما تكون دولة واحدة مفتوحة أمام هؤلاء جميعا فلا تنتظر إلا الفوضى العارمة والقتل الوحشي.
لن نتكلم هنا عن دور أمريكا فيما يحدث في العراق فعداؤها للعرب والإسلام والمسلمين واضح، وهي التي أعلنت الحرب على الإسلام باسم محاربتها للإرهاب ،وهي التي استباحت الأوطان باسم محاربتها للإرهاب، فاحتلت أفغانستان والعراق ، وتتدخل في لبنان والسودان، وتقصف الصومال؛ ولن نتكلم عن دور إسرائيل فيما يحدث ،وهي التي تريد من العراق الواحد مقسما، ومفتتا إلى مجموعة أقاليم؛ وإنما نتحدث عن الدور الإيراني في العراق، أحقاً تشكل إيران خطراً على الدول العربية المجاورة، أم أن ذلك مجرد وهم تسوّقه أمريكا ونجتره نحن العرب؟.
الإيديولوجية الشيعية:الشيعة ضد السنة
بالنظر إلى المنهج الفكري الشيعي الصفوي الذي تعتمده إيران، والذي يعلي من شأن " الأنا الشيعية" والإقلال من شان الآخر " العربي السني" واعتباره كافراً حقيراً لا يستحق إلا القتل، وتجد هذا المنهج يُكِنُّ العداء للعرب السنة أكثر مما يُكِنُّه لليهود، والمسيحيين، ومن يشاهدهم كيف يحيون ذكرى مقتل الحسن بن علي رضي الله عنهما التي تصادف يوم عاشوراء من كل عام حيث يستحضرون مشاهد القتل والدم ،وعبارات الثأر والانتقام ومظاهر التطبيل والتزمير ، تدرك حقيقة مهمة، وهي كيف تتربى الأجيال على "عقيدة الثأر" من الآخر العربي السني، وقد انتقد المفكر الإيراني الكبير "علي شريعتي" هذا المنهج ،واعتبره لا علاقة له بالتشيع الحقيقي، والذي يسميه ب "التشيع العلوي" ومما يذكره في كتابه الشهير " التشيع العلوي والتشيع الصفوي" من مآخذ على هذا المنهج نلخصه في النقاط التالية:
-التناقض الكبير في تصوير الأئمة، فتارة يضعهم هذا التشيّع في مرتبة الربوبية، فيصورهم على أنهم يخلقون ويرزقون ويدبرون الكون، وتارة أخرى يصورهم أجراء وتابعين ومتذللين للخلفاء والحكام.
– تحويل التشيّع العلوي المضيء القائم على التوحيد إلى تشيّع مشبع بالشرك والخرافة، كعبادة القبور، وتأليه الأئمة، والاعتقاد بتحريف. القرآن
–إهمال جوانب الاتفاق مع باقي المسلمين، وتغذية جوانب الاختلاف والفرقة.
– وقوف الدولة الصفوية مع النصارى والدول الأوروبية الاستعمارية ضد الدولة العثمانية السنيّة التي كانت تشكّل سدّاً منيعاً أمام هجمات وأطماع هؤلاء الاستعماريين.
– استيراد الصفويين لعقائد وعادات النصارى وهيئاتهم، وإدخالها في التشيّع، وخاصة في المناسبات كعاشوراء.
– قيام الدولة الصفوية على المذهب الشيعي، والقومية الفارسية، وإذكاؤها للشعور القومي، مما سبب لإيران وشعبها المسلم عزلة، وسلخها عن محيطها الإسلامي.
-اتخاذ علماء التشيّع الصفوي الدين مصدراً للتكسب والترزّق وأكل أمول الناس بالباطل، وإعطاء أنفسهم هالة وقداسة باسم الدين، تمنع الناس من مناقشة آرائهم وانتقاد أفكارهم وتصرفاتهم.
-تحايل الصفويين على العديد من قضايا الدين، وإباحتهم للمحرمات كالربا وبعض المعاملات غير المشروعة، والتلاعب بالمواقيت عند اجتماع يوم النوروز– وهو يوم عيد – مع يوم عاشوراء – وهو يوم حزن - .
وبالتالي، فإن التشيع الصفوي هو الذي أسس لمبدأ الثأر، ووسع هوة الفرقة بين المسلمين، واعتماد إيران على مثل هذا المنهج كان قبل ثورة الخميني وبعدها، وعندما نقول مثل هذا الكلام ليس تجنّياً على إيران ما بعد الثورة، فإيران الخميني بقيت تحافظ على الجزر الإماراتية الثلاث "طُنب الكبرى، وطُنب الصغرى، وجزيرة موسى"، ولم تمنح لعرب الأهواز الاستقلال، بل لم تقبل حتى بالتسمية المشتركة للخليج العربي -أي الخليج العربي الفارسي- وبقيت مصممة على تسميته بالخليج الفارسي.
إن ما يحدث في العراق الآن من قتل وتشريد وخطف على الهوية هو التطبيق العملي لهذا المنهج، ولا أحد يستطيع أن يخرج إيران من دائرة الاتهام، لأن من ينفذ هم عملاؤها الذين تدعمهم بالمال والسلاح، ونقصد بذلك مليشيات بدر التابعة للحكيم، ومليشيات جيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر.
مما سبق نستخلص، بأن إيران تشكل بحق خطراً على العرب ،ولكن لماذا "إدراك الخطر" في هذا الوقت بالذات ؟ وهل ما يحدث في العراق فتح عيون العرب على الخطر الذي يتهددهم من إيران، أم هل أن العرب يقومون بتسويق الخطر الإيراني خدمة لأمريكا ؟ أم هل أن النظام الإيراني نظام غبي وقع في الفخ دون أن يدري؟ .
محاولة للفهم
إن الولاياتالمتحدة عندما أحكمت السيطرة على العراق، فقد أكملت الحلقة المفقودة في التحكم في المنطقة، وفي ثرواتها النفطية ،لأنها تنظر أي أمريكا أن السيطرة على هذه المنطقة هي المفتاح للتحكم في العالم ، فهي تستطيع مراقبة روسيا والصين والتحكم في اقتصادات الدول المتقدمة( الاقتصاد الياباني ،واقتصاد الاتحاد الأوروبي المتمركز حول ألمانيا، إلا أنها بقيت لها مشكلة مع دولة لها طموح الهيمنة، ومشروع السيطرة على المنطقة، وتطرح نفسها دوماً كزعيمة للعالم الإسلامي وقد قال مؤخرا هنري كيسنجر "بأن أمريكا لن تسمح لإيران بالهيمنة على المنطقة"، وقد أشارت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي للأعوام الأربعة المقبلة المنشور في 16مارس 2005 بأن أمريكا لا تواجه تحدياً من دولة منفردة أكثر من التحدي من جانب إيران.
إن التعاون الأمريكي الإيراني الذي حصل في احتلال أفغانستان ثم في غزو العراق هو بمثابة زواج متعة لا أكثر ولا أقل ، وأن النسر الأمريكي سينقضُ على إيران قريباً، وذلك بفتح ملفات المحاسبة. كيف ذلك؟.
أرادت أمريكا توريط إيران في العراق قبل أن تقوم بأي عمل عسكري ضدها، وذلك بأن تُثْبِتُ كراهيةًً مقيتةً تُجاهها في نفوس جيرانها، وأصدقائها، لذلك فقد سهلت لها أن تتمركز، ويصبح لها نفوذ كبير في العراق، سواءٌ أكان سياسيًا أو عسكريًا ،حيث قامت بمساندة الحكومة العراقية العميلة ،لأنها حكومة طائفية ذات أغلبية شيعية، وتدعم المليشيات الشيعية "بدر وجيش المهدي " بالمال والسلاح، وهذه المليشيات تقوم بالقتل الطائفي بطريقة رهيبة لا يعرف لها نظير في التاريخ الحديث، مما ولّد لدى العرب شكوكاً لما تفعله إيران بحيث أصبحت شريكاً للاحتلال، ولاعباً يسرح، ويمرح، ويعبث بأمن العراق، والعراقيين، ومن هنا نشأت كراهية ضدها من طرف جيرانها العرب، وخسرت تعاطفهم، ومساندتهم في الوقوف بجانبها ضد الهجمة الأمريكية .
وبالموازاة مع ذلك، دفعت الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى التشدد، والتكلم بلغة فظة، فهو يطرح نفسه كزعيم للعالم الإسلامي يتكلم عن ضرورة مجابهة الإمبريالية الأمريكية، وعن مظلومية الشعب الفلسطيني، وما يتعرض له من عدوان صهيوني سافر، ويدعو إلى محو إسرائيل من الخريطة، وينظم ملتقى يشكك فيه بالمحرقة اليهودية، ومن هنا اتسعت الهوة بين إيران، وأوروبا التي كان رأيها قريباً من الرأي الروسي، والصيني بضرورة التعامل مع ملفها النووي دبلوماسيا، وبعيداً عن أي عمل عسكري.
هكذا نجحت أمريكا في عزل إيران، ومحاصرتها، وإظهارها كعدوٍ خطرٍ يهدد شعوب المنطقة، فهي تقول للعرب: "أنظروا إلى إيران ماذا تفعل بالعراقيين.. أنظروا أيها العرب إلى إيران بعد أن تصير قوة نووية ماذا تفعل بكم.. أنظروا أيها العرب إلى مصيركم"، وقد أكملت أمريكا هذا المخطط بإعدام صدام حسين رحمة الله عليه صبيحة يوم عيد الأضحى المبارك، فأمريكا هي التي سلمت صدام إلى الحكومة العراقية، وهي التي حددت ذلك اليوم لكي يُعدم فيه، ولكنها سوّقت للرأي العام العالمي، والعربي بالخصوص بأنها بريئة من هذا العمل، وأن عملية الإعدام شأن داخلي عراقي، ومن هنا برز دور إيران كفاعل رئيسي في عملية الإعدام عن طريق عملائها في الحكومة العراقية، وخاصة بعد التصريحات التي أدلى بها مسؤولون إيرانيون يرحبون فيها بعملية الإعدام دون مراعاة لمشاعر الملايين من المسلمين، ونحن نعتبر أن الدور الوظيفي لإيران في العراق قد انتهى بإعدام صدام، وأن ساعة الحساب قد حانت، وإلا كيف تفسر ما كشفته كوندليزا رايس مؤخرا من أن الرئيس الأمريكي جورج بوش قد أصدر قبل عدة أشهر أمرا يقضي بشن هجوم واسع النطاق على المصالح الإيرانية في العراق، وقد ترجم هذا الكلام مباشرة من خلال اعتقال القوات الأمريكية لستة موظفين إيرانيين عند دهمها لمكتب عائد للحكومة الإيرانية في أربيل شمال العراق .
كما عبرت عن استياءها للتدخل الإيراني في العراق، وزعزعة استقراره قائلةً "لا أعتقد أن هناك حكومة في العالم سوف تدع الإيرانيين بشكل خاص يديرون خلايا داخل العراق تصنع متفجرات ذات مفعول قوي جداً تُستخدمُ في قتل الجنود العراقيين، وهذا ليس تصعيداً من جانبنا بل سياسة رشيدة" ومن جانبه أعلن وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس خلال زيارته لمقر الناتو في بروكسل في الخامس عشر من جانفي من العام الجاري تصميم واشنطن على أن يكون لها وجود طويل في منطقة الخليج، وقال: " إن نشر كتيبة صواريخ باتريوت وإرسال حاملة صواريخ أخرى إلى منطقة الخليج لدعم الإستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس جورج بوش للعراق تعني ببساطة أن واشنطن تريد تأكيد أهمية منطقة الخليج للولايات المتحدة، وإبداء تصميمها على أن يكون لها وجود طويل هناك في المستقبل"، وحذر غيتس في هذا الصدد إيران من التدخل في العراق ولبنان فقال "الإيرانيون يتصرفون بشكل سلبي بالتحريض على العنف في العراق، ودعم مليشيات حزب الله في لبنان، من الواضح أن الإيرانيين يعتقدون أننا مقيدون داخل العراق، وأنهم يملكون المبادرة، وأنهم في وضع يمكنهم من خلاله أن يضغطوا علينا بطرق عديدة إلا أنهم يخطئون".
خلاصات
أرادت إيران أن تصفي حساباتها مع أمريكا بأن تنقل مواجهتها القادمة إلى الأراضي العراقية، وأرادت أمريكا أن تورط إيران، وتحاصرها من كل الجهات بإظهارها كخطر على المنطقة، وشعوبها، ودفعت العرب للترويج، والتسويق لهذا المخطط دون أن يدروا، ولا نقول هذا الكلام دون دليل، ومن يستحضر أحداث التاريخ يجد فيه مثل هذه المخططات، فعندما أرادت أمريكا أن تتمركز في الخليج بعد نهاية الحرب الباردة دفعت صدام حسين لغزو العراق، والضحية من كل هذا ككل مرة هم العرب والمسلمين.
هذا هو المعنى من كل ما يجري في العراق بين أمريكا وإيران، من دعوات الحوار إلى دعوات المواجهة والمجابهة، أيتفطن العقلاء في إيران لما يحاك ضدهم، ومن ثمّ، إنقاذ المنطقة من حرب أخرى الخاسر الأول والأخير هو المنطقة وشعوبها، أم أن النظام الإيراني سيستمر في انتهاج سياسة المعاندة، والمكابرة، هذا ما تكشفه الأيام القادمة؟.