أؤمن بحق كل شخص فى التعبير عن رأيه، كما أؤمن تماماً بأن الخطاب الدينى يحتاج إلى إصلاح وتصحيح للعديد من المفاهيم الخاطئة التى عاش المسلمون أسارى لها، ولم يلتفتوا إلى أن من أسسوا لها بشر يخطئون ويصيبون، وبالتالى فهى لا تتمتع بأى قداسة تجعلها فوق المراجعة، خصوصاً إذا فطنا إلى أنها وُضعت وتأصلت فى ظل سياقات تاريخية معينة، ربما كانت صالحة لها، لكنها لم تعد مناسبة للعصر الذى نحيا فى ظلاله، لكن الإصلاح والمراجعة أمر، والتطاول أمر آخر! أقول ذلك بمناسبة بعض الأفكار التى يرددها «إسلام بحيرى» فى برنامجه على إحدى القنوات الفضائية، وهى تشهد على وقوعه فى ذات الفخ الذى ينعى على غيره الوقوع فيه. فإذا كان الرجل يجتهد من أجل نقد بعض الأفكار التى تحتشد بها كتب التراث، وهى بالفعل جديرة بالنقد، فإن حالة من «الدعوشة» تصيبه فى بعض الأحوال، عندما يشتط به الحماس والانفعال، فيدفعه إلى طرح حلول «داعشية» بامتياز عند مراجعة الخطاب الدينى. «أطالب بحرق كتاب صحيح البخارى وصحيح مسلم».. تلك واحدة من الجمل التى ترددت عدة مرات على لسان «البحيرى». أنا شخصياً لا أنتقص من حقه ولا حق غيره فى المطالبة بمراجعة ما تحتويه كتب الصحاح من أحاديث، فى ضوء النص المرجعى الأعلى الحاكم للإسلام، والمتمثل فى القرآن الكريم، انطلاقاً من أن واضعى هذه الكتب اعتنوا بجانب الإسناد ولم يكن موضوعهم «محتوى الحديث» ذاته، وقد يكون لإسلام بحيرى ملاحظات أو تحفظات على بعض ما ورد فى هذه الكتب، لكن ذلك لا يبرر بحال أن يدعو إلى حرقها، تماماً مثلما يفعل «الدواعش» الذين يحرقون كل ما لا يروقهم ومن لا يخضع لجهلهم. وأريد أن أسأل: ماذا سيكون موقف «البحيرى» وغيره إذا خرج أحد المشايخ يدعو إلى حرق كتب أحد المفكرين لمجرد أنه يتناول أفكاراً يختلف معها؟ هذا النمط من التفكير فيه حيود عن العقلانية. وأصل إصلاح الخطاب الدينى يرتبط ب«عقلنته». «الأئمة الأربعة السفلة».. واحدة من الجمل «البحيرية» الأخرى التى يسب فيها «مالكاً» و«الشافعى» و«ابن حنبل» و«أبا حنيفة»، مستنداً فى ذلك إلى بعض الفتاوى والأفكار التى وردت فى مؤلفاتهم والتى ارتبطت بسياقات زمانية ومكانية معينة، لا بأس أن ينتقد «إسلام» هذه الأفكار وتلك الفتاوى، انطلاقاً من أن الفقه يشكل «المتغير» فى الخطاب الدينى، لكن هل يليق بمن يوجه نقداً أن يصف هذه القامات التى لعبت دوراً تاريخياً فى التأصيل للفقه الإسلامى ب«السفلة»، هل يظن أنه بهذا الأداء يسهم فى إصلاح الخطاب الدينى، أو بعبارة أخرى فكر «المتدينين» المسلمين؟ إن هذا الأداء لا يختلف عن الطريقة الفظة الغليظة التى يتبعها الدعاة «المتدعوشون» وهم يتحدثون فى أمور الدين، ناسين قول الله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»، فإذا كان «إسلام» يدعو إلى سبيل الله فعليه أن يفهم أنه أخطأ، اللهم إلا إذا كان يدعو إلى سبيل آخر! والإنسان لا يسقط فى دوائر السفه إلا عندما يحيد عن طريق الإصلاح، ويجتهد فى البحث عن المصلحة، لأن طالب الإصلاح لا يميل إلى الاعتماد على الصدام والهدم، من يجنح إلى ذلك هو طالب الشهرة والنجومية، بما يحبلان به من مغانم! تعال بعد ذلك إلى عبارة «الحور العين بتوعهم» التى رددها «إسلام» فى إحدى حلقات برنامجه. أنا أفهم أن يناقش إسلام بحيرى وغيره التراث الإسلامى بتجلياته المختلفة، لكن الأمر بالنسبة للقرآن الكريم يختلف. ولست أظن أن أى مسلم يعتبر القرآن جزءاً من التراث، فأى مسلم يؤمن بأن القرآن كتاب مقدس منزل من السماء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد تحدّث الكتاب الكريم عن «الحور العين». فالله تعالى يقول: «وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، ويقول «حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ». ولست أدرى كيف بلغ الشطط ب«بحيرى» هذا المبلغ، فاندفع إلى هذا اللغو والنيل من الكتاب الذى يؤمن به أكثر من مليار ونصف مسلم، اختلفت بهم المذاهب، وتباينت رؤاهم للتاريخ، واختلفت زوايا نظرهم فى أمور السياسة، لكنهم اتفقوا جميعاً على القرآن الكريم. إن المسألة هنا تطول العقيدة، فالقرآن قدّم تصوراً محدداً حول الجنة والنار، والمسلم الذى يؤمن بالله ورسوله يعتقد فى هذا التصور ويجزم به. والتصورات العقائدية تقع ضمن ثوابت الدين، وليس من المسموح أن تكون مجالاً للتجديد، وإلا فقد الدين معناه، طبعاً من حق أى إنسان ألا يؤمن بها، فهذا اختياره: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، لكن ليس من حقه بحال تسفيه أو ازدراء عقائد غيره، خصوصاً إذا كانت مؤسسة على كتاب سماوى مقدس. ولعل «إسلام» سمع عن حالة الغضب التى أصابت الكنيسة المصرية بسبب تصريحات الدكتور نبيل العربى، أمين جامعة الدول العربية، فى ختام فعاليات القمة العربية الأخيرة، فى معرض حديثه عن السنة والشيعة وحرب اليمن وقوله «إحنا -يقصد المسلمين- مش كاثوليك وبروتستانت عندنا كتب مختلفة وأوضاع مختلفة»، وعلق الأنبا رافائيل، سكرتير المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية، فى تدوينة على موقع «فيس بوك»، كما نشر موقع الوطن، على كلام «العربى»، قائلاً: «طلب منى أحد الشباب الرد على نبيل العربى بشأن مزاعمه بوجود أكثر من كتاب مقدس فأجبته نحن نرد على المثقفين فقط». لقد كان رد فعل المصريين المسيحيين طبيعياً، إذ يدافعون عن ثوابت عقيدتهم، وأظن فى المقابل أن من حق أى مصرى مسلم أن يرفض أى نوع من التطاول على ثوابت دينه. لقد طالب الأزهر الشريف، كما نادى آخرون، بإيقاف برنامج «إسلام بحيرى»، ولست أتفق معهم فى هذا الرأى. فإن كان من حق أى مسلم أن ينافح عن ثوابت عقيدته، فعليه أن يكون واثقاً من أن «إسلام» وغيره ليس فى مقدورهم أن ينالوا من هذا الدين، ولا من كتابه الكريم، للقرآن رب يحميه. دعوه يقول ما يشاء، فإن قال حسناً أو مفيداً، فاسمعوه، وإن كانت الثانية، فدعوه يأكل نفسه، وتذكروا قول الله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».