ليست هذه كل مصر، لكنها ثلاث أسر معبرة عن «كل مصر». ثلاث أسر تحتويها عاصمة الفقر والغنى.. الجهل والثقافة.. التخلف والتحضر.. القبح والجمال. لا تسأل إذن عن صعيد أو دلتا أو ساحل أو صحراء، فكلها حاضرة، آتية من «أم واحدة.. أب واحد.. دم واحد.. بس عايشين فى اغتراب». كلها تتفرع من القلب وتصب فيه.. كلهم يعيشون فى «قاهرة المعز»: أحدهم فى سقفها، فنسميه «زمالك» والآخر فى خصرها فنسميه «السيدة زينب»، والثالث تحت خط فقرها فنسميه «رملة بولاق»، لكنهم على اختلاف ظروفهم المعيشية ومواقفهم فى السلم الاجتماعى.. لا تسمع أحداً منهم يقول: «أنا قاهرى»، فتلك هوية افتراضية. إنهم جميعاً مصريون. يتحدثون عن مصر التى يعيشونها بالفعل، والتى يحلمون بها. مصر التى يحبونها من بعيد، وتحبطهم كلما اقتربوا منها. مصر التى «ثارت» مرتين وانخمدت نيرانها، فإذا هى أسوأ فى نظرهم مما كانت عليه قبل أن تثور. كلهم تفاءلوا بعد «25 يناير». قالوا: «غمة وانزاحت»، والدنيا ستضحك، والعدل سيسود، والسماء ستمطر خبزاً وفاكهة، لكنهم وجدوا أنفسهم واقفين على أنقاض، غارقين فى فوضى وانفلات و..... «إخوان»، ثم مهددين فى هويتهم وأمن بلدهم القومى. وتفاءلوا بعد «30 يونيو».. قالوا: «غمة تانية وانزاحت». أعدنا دولتنا وأنقذنا هويتنا وأصبح لدينا رئيس من لحمنا ودمنا. رفعوا سقف طموحهم وتوقعاتهم، فإذا بهم يواجهون حرب إبادة كونية، فتقهقرت الأحلام وخفتت أصوات الشكوى.. لكن القلوب موجوعة، والولاءات مشتتة. لا شىء تغير، بل زاد على المصريين هوس الاستقطاب. وسواء فى الزمالك أو السيدة زينب أو رملة بولاق.. أنت أمام ثلاثة أجيال: الجد والابن والحفيد. الماضى والحاضر والمستقبل. هذا مريض بذكريات زمن لا أمل فى عودته أو استعادته، وهذا غارق فى تفاصيله اليومية، تتخاطفه وتتنازعه وتحاصره كخيوط عنكبوت. وهذا منفى فى شرنقة أحلام.. أقلها جموحاً: رفض ما يجرى، وذروتها.. رفض العيش فى بلد لا مكان فيه لحلم. ثلاث أسر، تنطوى على ثلاثة أجيال، يتحدثون فى شئونهم وفى شئون بلدهم. يتقاطعون حيناً ويتوازَون فى أغلب الأحيان.. إنها مصر: فى وحدتها.. وتشظيها.