وقف «جريج» عابد بنى إسرائيل يُصلى فى محرابه.. خشع لربه واستغرقه ذكر الله وتسبيحه وحمده والثناء عليه.. شعر بأن لحظات المناجاة لربه والذوبان فى حبه وعبوديته سبحانه هى أحلى لحظات العمر. وبينما هو مستغرق فى صلاته وهائم فى حب ربه سمع صوت أمه تناديه: «يا جُريج».. لا بد أنها جاءت لزيارته فى صومعته التى اعتزل فيها للعبادة. حدّث نفسه: أمى أم صلاتى؟.. أرد على أمى وأنزل إليها.. أم استمر فى صلاتى؟ أأقطع خلوتى مع ربى لأخلو بأمى.. ولحظات الوجد مع الرب سبحانه، لألتقى بمخلوق، حتى لو كان أمى. قطع الشك باليقين واستمر فى صلاته، مهملاً أمه.. نادته مرات فلم يستجب.. غادرته غاضبة.. التمست له أعذاراً لعله لم يسمع أو كان نائماً.. إلخ.. الأعذار التى توهم بها الأم نفسها حتى لا تغضب على ابنها. جاءت فى اليوم التالى ليتكرّر السيناريو نفسه، تناديه مرات «يا جريج»، فيقارن ثانية بين الاستمرار فى صلاته أو إجابة ندائها.. إنه يظنها مقارنة بين الخالق والمخلوق.. بين الرب والأم، وهى ليست كذلك. يرفض مجدداً الاستجابة لأمه ومقدماً صلاته.. يزداد غضبها هذه المرة وتكاد تدعو عليه، لكنها تملك غضبها وتلتمس له المعاذير مجدداً. تعود فى اليوم الثالث لتناديه بأعلى صوتها: «يا جريج».. يُخطئ فى القياس مرة ثالثة، يظن أنه يقدم حق الله على حق العباد.. ولا يدرى أن إجابة والدته وبرّها وصلتها فرض عين حل أوانه بقدومها وندائه.. وأن نوافل العبادات والطاعات لا تعد فرضاً، لكنها مستحبة ومندوبة، ويمكن أن يحصّلها العبد فى أى وقت. آه.. إنه فقه الأولويات الذى لم يدركه هذا العابد، كما يغفل عنه الكثيرون.. إنه ينقصه الفقه ليزن مراتب الأعمال.. ويدرك أنه لا تعارُض بين حقوق الله وحقوق العباد.. وبين صلة الرب وصلة الأم.. بل إن الأم هى أقرب خلق الله للرب.. لأن لها من عطاء الربوية الكثير.. فهى تعطى بلا منّ ولا أذى، ودون حساب، وبلا مقابل، ولمن أحسن أو أساء من أولادها. فكر «جريج» فى نداء أمه فى اليوم الثالث وكرر السؤال على عقله: أمى أم صلاتى؟ غلّب كالمعتاد صلاته.. غضبت يومها غضباً لا نظير له. فاض بها الكيل.. «جُريج» الذى حملته كرهاً ووضعته كرهاً وربته طفلاً يفعل بى هكذا.. لم تشعر بنفسها وهى تدعو عليه: «اللهم لا تمته حتى يرى وجوه المومسات». كانت السماء مفتوحة كعهدها دوماً لدعاء الأمهات جميعاً.. استجاب الله دعاءها.. قدّمت السماء الأم على العابد وحقها المفروض على عبادة «جريج» المندوبة. مرّت الأيام وجاءت إحدى بغايا بنى إسرائيل تحمل طفلاً لها، فلما سألها قومها عن صاحب الفعلة الشنيعة والزنا المحرم بها.. قالت لهم: «جريج».. أصابتهم الدهشة، لكنهم صدقوا، فقام أهل القرية يشتمون «جريج» ويسخرون من خداعه لهم.. وبعد أن أوسعوه سبّاً وشتماً قاموا بتحطيم صومعته.. عرف السبب أخيراًً؟.. فأمرهم أن يأتوا بالطفل، فلكزه بإصبعه قائلاً: من أبوك أيها الطفل؟.. فتهامس الناس: «جريج» أصابه الجنون، فهو يكلم وليداً فى المهد.. لكن الطفل نطق: أبى راعى الغنم.. فكبّر الناس وهللوا وأخذوا يعتذرون ل«جريج» ويعانقونه، قائلين: نبنى صومعتك من ذهب.. فقال: لا.. ابنوها من طين. هذه القصة حكاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ورواها البخارى ومسلم وآخرون. وقد أعجبنى قول بعض شراح الحديث بأن «أم جريج» لو دعت عليه بالفتنة لفُتن.. لكنها كانت رحيمة به إذ دعت عليه أن يرى فقط وجوه المومسات دون أن يتلوث بمعصية أو شرك. إن السؤال الذى يلح على البعض اليوم ليس هو أمى أم صلاتى؟.. فلا أحد يُعير نوافل العبادات والطاعات التفاتاً.. والبعض لا يُصلى الفرائض وإن صلاها لا يواظب عليها.. فسؤال اليوم: أمى أم زوجتى، أم رتبتى، أم مالى، أم جاهى، أم أولادى. وهؤلاء فى النهاية يعدّون صنفاً راقياً إذا قارنتهم بأولئك الذين يسألون أنفسهم: أمى أو الترامادول أو البانجو أو شلة الفساد وأصدقاء السوء. فكل حين نسمع عن شاب يقتل أمه، لأنها لم تعطه ثمن المخدرات التى أدمنها؟ وآخر ضرب أمه أو أهانها لأنها رفضت إعطاءه ثمن المخدرات؟ أو أنكرت عليه تناولها؟ لقد نال «جريج» العقوبة، لأنه لم يدرك فقه الأولويات.. وهو فقه عظيم يقدّم فرض العين على فرض الكفاية، ويقدم فرض الكفاية على المندوبات والسنن، ويحذر من الشرك قبل الكبائر، ويبتعد عن الكبائر قبل الصغائر، ولا يحول الخطأ إلى خطيئة ولا الخطيئة إلى الكفر، لكن قومنا اليوم لا يقعون فى عقوق الوالدين، أو تجاوز فقه الأولويات فحسب، إنهم يشتمون أو يضربون أو يقتلون الوالدين، وقد يرفع أحدهم قضية حجر على أحد والديه، أو يلقى بهما فى الشارع، مستلباً شقتهما أو يضعهما فى دار المسنين ليستريح من عناء رعايتهما أو يفعل ذلك إرضاءً لزوجته، أو يخجل من زيارة والديه القرويين له فى عمله أو فى منزله، حيث تتأفف زوجته الأرستقراطية منهما. هذا حال «جريج» وحالنا، وقد وقفت طويلاً أمام قول فقهاء الإسلام من أنه يجب على من يصلى النافلة أن يقطع صلاته، ليجيب نداء أمه، لأن إجابة الأم أولى من الاستمرار فى النافلة.