أطلال مبانٍ قليلة لا تتجاوز أعدادها أصابع اليد الواحدة صارت شاهداً على ذكرى محاولة تنظيم «داعش» الإرهابى إيجاد موطئ قدم له فى محافظة البصرة، لخلق بؤرة توتر فى الجنوب العراقى.. محاولة انتهت بالفشل على يد أبناء المحافظة من السنة والشيعة والمسيحيين، الذين تكاتفوا وواجهوا الإرهاب بتعايشهم ووحدتهم، قبل السلاح، وباتت محافظتهم رأس حربة فى الحرب على الإرهاب، وإن لم تطل الحرب شوارعهم. «رغم محاولة الإرهابيين اختراق مجتمع البصرة الذى يشبه إلى حد كبير صعيد مصر، عبر اغتيال ثلاثة من علماء السّنة، لتسويق الحادث وكأنه اغتيال طائفى، للوقيعة بين السنة والشيعة فى تلك المدينة، فإن محاولتهم لم تفلح».. هكذا وصف علاء على، من سكان البصرة، حال أهل المدينة الذين يتضامنون على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم فى مواجهة الإرهاب، لافتاً إلى أن ما يحدث للعراق هو مؤامرة، بدأت منذ الغزو الأمريكى لاحتلال العراق. وتابع: «لم يجن المواطن العراقى من الصراعات السياسية ومؤامرات إحياء النزعة الطائفية سوى الخراب، اقتصاد مدمر، وأسر تبحث عمن يعولها، وشباب ضائع يبحث عن مستقبل فى بلد فقد بوصلته ووجهته السياسية نحو المستقبل»، ورغم ذلك أثنى علاء على حكومة العبادى وتوجهاتها الراهنة نحو الأزمة فى الشمال، مثمناً دعم بعض القوى الإقليمية لبغداد فى المحنة التى تمر بها. فى متجره الواسع الواقع على مقربة من نقطة «سيطرة» كما يطلق عليها العراقيون، وهى ارتكاز أمنى، لفحص المشتبه بهم ومراقبة حركة الشارع، وقف مازن العلى، الشاب الأربعينى وسط بضائعه يتابع حركة البيع والشراء، التى وصفها بأنها «رائجة» على عكس الواقع، فالمترددون على المتجر قليلون رغم أنه عامر بالبضائع الأجنبية.. «القوة الشرائية للمواطن العراقى ارتفعت بنسب غير مسبوقة، وتضاعفت أرقامها مرات عديدة بعد سقوط النظام البعثى».. كلمات رددها مازن ليشير بها إلى واقع اقتصادى مطمئن رغم الأزمات التى تجتاح البلد، مدللاً على صحة حديثه باستقرار سعر الصرف وعدم ارتفاعه إلى مستويات كبيرة منذ فترة طويلة، وأوضح «مازن» أن الإرهاب الداعشى أثر على حركة نقل البضائع إلى الشمال فقط ودون ذلك يظل الوضع آمناً حتى بغداد، مشيراً إلى أن الشارع العراقى بدأ يدرك ما يحاك له من مخططات تآمرية هادفة إلى تدمير المواطن والدولة، محذراً من تجار الدين الذين يستغلون دين الله فى تحقيق أغراض سياسية رخيصة -على حد وصفه- مُرجعاً سبب الأزمة فى العراق إلى فساد السياسيين ووثوق العوام فى بعض المرجعيات التى لا تبحث سوى عن مصالحها، مؤكداً أن هذين النموذجين سبب الخراب الذى ساد العراق. «الساسة ينافقون الشعب ويحصلون على صوته ليمثلوه ثم يسعون لتحقيق مصالحهم على حساب من انتخبوهم وعلى حساب الوطن، ورجال الدين يستغلون المساجد للحشد لدعم ممثليهم سعياً وراء مصالحهم وتشكيل قوة نافذة لهم من خلال الوجود على المسرح السياسى العراقى»، هكذا وصف مازن رؤيته حول أسباب الأزمة الراهنة التى تشهدها المدن العراقية من شمالها إلى جنوبها. فيما انتقد الناشط الحقوقى الشاب حسن على، إهدار الدولة لحقوق الشباب وغياب دورهم على الساحة السياسية، لافتاً إلى مطالبتهم مراراً وتكراراً الحكومة والمسئولين العراقيين بتخفيض سن الترشح لعضوية البرلمان إلى سن 22 عاماً لكى يتمكن الشباب من المشاركة فى الحياة السياسية، مستنكراً تجاهل مطلبهم الذى سيؤدى فى النهاية إلى مزيد من الاستقطاب للمجموعات الشبابية من قبل التنظيمات الإرهابية التى لا تعرف سوى لغة القتل، مستشهداً بانضمام بعض أصدقائه إلى التنظيم الداعشى الإرهابى. وأضاف: «حاولت كثيراً إثناءهم عن فكرة الانسياق وراء هذا التنظيم الوحشى، وكانوا من آن لآخر يطرحون موضوع الانضمام له فى جلساتنا، وكنت أعارضهم على طول الخط محاولاً إقناعهم، ولكن حالة الإحباط والأفكار الملوثة التى ينشرها الداعشيون حالت دون ذلك بعد أن استحوذت على عقولهم، وبعد فترة ليست قصيرة تواصل معى أحدهم، مطالباً مساعدته فى الهروب من بين صفوف التنظيم والعودة». وتابع: الخروج من بين الدواعش يعنى الموت، وبالفعل حاول اثنان منهم الهرب، ولقيا مصرعهما بعد أن أطلق عليهم الدواعش النار بعد مطاردتهما، وحذر الحقوقى «حسن» الشباب من الانسياق وراء المجموعات الإرهابية لأن الانضمام لها نهايته الأكيدة هى الموت إما بيد الجيش أو بيد الدواعش أنفسهم. وعلى الجانب الرسمى، أكد الدكتور ضرغام الأجودى محافظ مدينة البصرة، أن العراق تتعرض لمؤامرة هدفها محو المواطن العراقى وتدمير حضارته التى امتدت لآلاف الأعوام، مشيراً إلى أن الشباب محور اهتمام الحكومة ولكن الحرب على الإرهاب تشغل المسئولين عن الالتفات للعديد من المشكلات وعلى رأسها الشباب. وقال «ضرغام» إن الجنوب يحمل عبء الشمال، حيث تهدر الثروات النفطية فى حرب الإرهاب، لافتاً إلى استقبال النجف والبصرة آلاف المهجّرين من الشمال من أهل السنة، وهو ما يؤكد أن إثارة النعرات الطائفية مصدرها متطرفون من النخب فى المذهبين، مدللاً بأن المهجّرين السنة سكنوا الحسينيات من كربلاء إلى النجف. «الشعب العراقى يتعايش دون تفرقة، ولكن هناك من يقدح النار من أصحاب المؤامرات الهادفة إلى الفتنة، ويكفى أن أهل السنة فى الغرب تطوعوا فى الحرب على داعش التى تحاول القوى الدولية توصيفها على أنها تنظيم إرهابى سنى، وأنا أؤكد أنها بعيدة تماماً عن عقيدة أهل السنة بل إنها لا تعرف الإسلام من الأصل ولا دين لها».. هكذا وصف «الجوادى» التنظيم الإرهابى وما يثار عن الطائفية فى العراق، لافتاً إلى أن المؤامرة تستهدف الحضارة ومحو التاريخ، بدليل تدمير الدواعش للمتاحف والمكتبات التى تحوى كنوزاً تاريخية أثرية، مثمناً الدور المصرى الداعم لوحدة العراق والعمل على استقراره. وقال «ضرغام» إن التحالف الدولى على داعش مجرد أكذوبة، ابتدعها الغرب لتثبيت أقدام التنظيم الذى أنشأه الأمريكان، مضيفاً أن التحالف الدولى يوجه ضربات هزيلة لمعاقل التنظيم لا تهدف للتخلص منه قدر الحفاظ على وجوده ومنع امتداده، مدللاً على ذلك بشاهدين؛ أولهما أن القوى الإمبريالية تحظر على القوات العراقية استخدام الأسلحة البسيطة مثل النظارات الليلية وتمد بها داعش، أما الشاهد الثانى فيتمثل فى رفض القوى الدولية دعم الجيش العراقى بوسائل حديثة بعد أن دمره الأمريكان إثر الغزو، ورغم ذلك تمكن الجيش العراقى من تحقيق ضربات موجعة للدواعش عبر سبع طائرات فقط نفذت 25 ألف طلعة جوية، وحققت نتائج هائلة فى أيام قليلة بالمقارنة بالتحالف الدولى الذى يضم قوى دولية عديدة ولم ينفذ سوى 15 ألف طلعة جوية منذ إعلان التحالف حربه على التنظيم الإرهابى. الشيخ محمد بلاسم، مدير الوقف السنى بالعراق، أكد أن الطائفية ليست واقعاً عراقياً يشهده الشارع، لافتاً إلى وجود أجندات خارجية تزكى الاحتقان بين طوائف الشعب العراقى لإحداث الفتنة، لافتاً إلى أن واقعة اغتيال ثلاثة من علماء السنة كانت مجرد مخطط للوقيعة بين أصحاب المذهبين. وتحدث «بلاسم» عن الحرية التى تشهدها مساجد أهل السنة فى البصرة، مشيراً إلى أن أكثر من 10 مساجد تقام فيها الشعائر دون أية مشكلات، مدللاً على ذلك بأن الوقف السنى يعمل به 1200 موظف من أبناء المذهب، ولا يوجد تضييق على أى إمام. وأكد أن ما يثار حول هدم مساجد أهل السنة وتدمير مبنى الإدارة كانت مجرد شائعة تضمنها تقرير المبعوث الأمريكى للعراق، ما دعاه للرد إعلامياً لنفى وتكذيب ما جاء فى التقرير الأمريكى، وتابع قائلاً: «بعدما نفيت ما جاء فى تقرير مبعوث الأممالمتحدة، تواصل معى القنصل الأمريكى متسائلاً عما إذا كنت تعرضت لتهديدات للخروج على الإعلام، ونفى ما جاء فى التقرير، فكان ردى عملياً بأن دعوْته لزيارة مساجد أهل السنة ومديرية الوقف وكبار العشائر السنية للاطلاع على حقيقة وواقع الشارع العراقى المتعايش والذى لا يشهد أحداثاً طائفية إلا فيما ندر ومن قبل بعض المتطرفين من أبناء المذهبين». وأضاف أن «داعش» لا تدافع عن أهل السنة كما تزعم بعض الوسائل الإعلامية، فالمهجّرون من الموصل هم أبناء المذهب السنى والمقاتلون ضد داعش فى الحشد الشعبى انضم إليهم أبناء المذهب السنى. فيما قال الشيخ عباس الزيدى، الكاتب والمفكر الإسلامى العراقى إن البيئة الحاضنة للدواعش فى الشمال، ساعدت فى تمدد هذا التنظيم، واستمرار وجوده رغم سحقه وطرده من العديد من المواقع العراقية، مشيراً إلى أن التنظيم تديره أجهزة استخبارات وتدعمه دول بكامل عتاده، مدللاً على ذلك بوجود عناصر من أكثر من 190 دولة فى صفوف الدواعش. وأكد أن ظهور داعش مرتبط بمشروع استخباراتى غربى هدفه إشعال حرب مذهبية وطائفية فى العراق على وجه الخصوص والمنطقة العربية على وجه العموم. «الوعى الشعبى العراقى، يشكل جزءًا كبيراً من الأزمة الراهنة فى الواقع العراقى، فالنخبة الحاكمة ليس لها قواعد حقيقة فى الشارع، وبالتالى التوجهات السياسية لا تهدف إلى صالح الشعب العراقى، لأنها تتبنى سياسة المواءمات وإرضاء الأطراف الإقليمية والدولية على حساب الشعب العراقى».. هكذا شرح عباس واقع الأزمة العراقية، لافتاً إلى أن القوى السياسية العراقية تعتمد إما على الحشد الدينى أو القبلى، وهو ما يغيّب فكرة المواطنة ويظهر أن هناك وضعاً طائفياً على الرغم من أن واقع الشارع العراقى وحياة العوام من سنة وشيعة ومسيحيين لا يؤكد ذلك التوجه وحصر الأزمات التى يمر بها الوطن فى سياسات النخب وسلبية الشعب. وحول مقترح مصر بإقامة قوة عربية مشتركة لمواجهة الإرهاب، أكد «عباس» أن الأمر يحتاج إلى دراسة واستفاضة فى توضيح الرؤى حتى لا تتكرر إشكالية قوات درع الجزيرة، التى حصرت حربها على المجموعات الشيعية فى العالم العربى. وأضاف: لا أشكك فى نوايا وإخلاص الرئيس عبدالفتاح السيسى، ولكن هناك بعض الدول المغرضة التى من الممكن أن تنضم إلى التحالف ولها أجندات وأهداف خاصة، وكنت أتمنى من الرئيس السيسى أن يدعو الجيش العراقى للانضمام للقوة العربية المشتركة حتى تكون الحرب على الإرهاب حرباً شاملة لا تتجزأ، كما سبق وذكر فى كثير من أحاديثه.