الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان له مقولة شهيرة: السياسة هى ثانى أقدم مهنة فى التاريخ. وقد اكتشفت أنها تحمل كثيراً من الشبة للمهنة الأولى (الدعارة)! هذه النظرة السوداوية للسياسة منتشرة فى العام كله. ففى مصر هناك كثير من المصريين يعتقدون أن السياسة ما هى إلا عملية صراع على السلطة، وعندما تتطرف هذه النظرة للسياسة تصل إلى الزعم بأن السياسة مجال فاسد بالضرورة.. فهو ساحة للأنانية وللكذب وللضرب تحت الحزام، باختصار ساحة صراع مفتوح تميل فيه الأطراف المتصارعة إلى استخدام كافة الأسلحة المشروعة وغير المشروعة. السياسة باختصار هى مجال للنصب على الناس، هذا ما يسمى فى لغتنا اليومية «البولوتيكا» وهى كلمة إيطالية تعنى «السياسة» دخلت القاموس المصرى من واقع هجرة الآلاف من الإيطاليين إلى مصر فى القرنين التاسع عشر والعشرين، وبالمناسبة فإن نيوكولو مكيافيلى الإيطالى هو أهم مُنظر لنظرية السياسة كمجال قذر للصراع، وهو هنا يلتقى مع نظرة ملايين الناس فى العالم الذين يحملون إما شكاً أو احتقاراً للسياسيين، بل إنه يلتقى مع نظرة الكثير من السياسيين لأنفسهم ولمهنتهم كما تبين مقولة ريجان. هكذا يقال لنا إنه من السذاجة الاعتقاد أن هذه السياسة يمكن أن يكون فيها أخلاق، أقصى ما يمكن أن نحلم به هو أن تتحول السياسة من «خناقة» بلطجية إلى ملاكمة لها قواعد، يحق فيها لكل خصم أن يشبع الآخر «تلطيش» وضرباً لكن لا يجوز له أن يقتله أو يحدث فيه عاهة مستديمة. هذه النظرة السوداوية للسياسة تناقضها نظرة أخرى ترى السياسة باعتبارها ساحة لخدمة الناس ومجالاً للإيثار والتضحية أو هكذا يجب لها أن تكون، الأساس العلمى لهذه النظرة نجده عند فلاسفة الإغريق الذين اشتقوا كلمة سياسة من كلمة مدينة، هكذا كان تعريف السياسة بالنسبة لهم هو إدارة شئون المدينة أى إدارة الشأن العام. فإذا كان لكل منا شأن خاص عليه أن يعتنى به، مثل رعاية منزله فهناك مساحات مشتركة بيننا مثل الشارع لا يمكن إدارتها إلا بمجهود جماعى منظم. أظن أن الخطأ الجوهرى فى النظرة للسياسة يكمن فى الاقتصار على التعريف الأول أو الثانى. نعم السياسة هى صراع على السلطة، وهذا الصراع على السلطة، لكن السلطة فى النهاية هى أداة لإدارة الشأن العام، أى إمداد المواطنين بمجموعة من الخدمات مثل الأمن والمرور ونظافة الشوارع. من يفوز بالسلطة عليه أن يحققها ومن يحاول الفوز بالسلطة عليه أن يتكلم فيها وأن يبرز مهاراته فى إدارتها، ومن هنا فإن التعريف الأكثر علمية للسياسة فى رأيى لا بد أن يقوم على دمج التعريفين المذكورين ببعض فتكون السياسة صراعاً على السلطة من أجل إدارة المجال العام. عبقرية الثورة المصرية هى أنها اشتملت فى فعالياتها ورموزها على المعنيين المذكورين للسياسة. الثورة اشتملت بالتأكيد على صراع على السلطة لإزاحة مبارك ومجموعته، لكن الثورة اشتملت أيضاً على مشاركة مئات الآلاف الذين قاموا بإدارة الشأن العام عوضاً عن الدولة المنهارة والمشلولة بدءاً من توفير الأمن من خلال اللجان الشعبية ووصولاً إلى تنظيف ميدان التحرير وتجميله الذى كان فعلاً رمزياً شديد القوة يحمل رسالة مفادها أننا لم نخرج فقط لإزاحة مبارك أو للصراع على السلطة ولكننا خرجنا أيضاً لكى نغير من وجه المجال العام فى مصر ونشارك فى إدارته وتنظيمه حتى يصبح أكثر جمالاً وتحضراً، مشكلة مصر اليوم أن السياسة بمعنى الصراع على السلطة قد طغت وأن صوت السياسة بمعنى إدارة الشأن العام قد خبا، المشكلة أن الساحة قد خلت اليوم لمن يعتقدون أن السياسة هى فقط صراع على السلطة وذلك عندما انزوى مئات الآلاف ممن يتبنون تعريف السياسة باعتبارها إدارة المجال العام فى بيوتهم. لن تنصلح مصر وسياستها إلا باستعادة هؤلاء إلى السياسة.