المرة الثانية التى ظهرت فيها فكرة ذبح إنسان لآخر أو ذبح أب لابنه ولدتها الثقافة العربية وارتبطت ب«عبدالمطلب بن هاشم» جدّ النبى صلى الله عليه وسلم، فقد حدث أن عيَّره قومه بذكره الوحيد (الحارث بن عبدالمطلب) يوم أن كان يحفر «زمزم»، فنذر أن يذبح ابناً من أبنائه أمام الكعبة إذا رزقه الله عشرة ذكور. فلما رزقه الله بهم أراد عبدالمطلب أن يفى بنذره، فاستهم (أى أجرى القرعة) على أبنائه فخرج عبدالله، والد النبى، فجزعت قريش، وطلبت منه أن يتريث حتى يراجع إحدى الكاهنات لتحكم فى الأمر، وحكمت الكاهنة أن تُضرب القداح ما بين عبدالله ودية القتيل المعلومة لدى العرب، وهى عشرة من الإبل، وظلت الأقداح تُضرب، والإبل تزيد، حتى بلغت المائة فوقع السهم عليها، ونجا عبدالله، لينجب محمداً صلى الله عليه وسلم. تبدو ملامح التشابه بين هذه القصة وقصة منام نبى الله إبراهيم الذى رأى فيه أنه يذبح ولده إسماعيل واضحة، فكلاهما يدور حول موضوع ذبح أب لابنه، وفى القصتين تم افتداء الابن بقربان إلى الله، بيّنها القرآن بكلمة «ذِبْح»، وحددتها كتب السيرة ب«الإبل». وربما فسر لك ذلك العبارة التى تصف بها كتب السيرة والحديث النبى صلى الله عليه وسلم ب«ابن الذبيحين»، ويقصدان بهما «إسماعيل» و«عبدالله»، رغم أن القرآن الكريم لم يحدد أصلاً من هو الذبيح من أبناء إبراهيم، وهل هو إسحق أم إسماعيل، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى تلك الحكايات التى ترددت داخل بعض كتب التراث حول والد النبى وجدّه. سياق الحديث عن قصة ذبح عبدالمطلب لولده تبدو فيه الرغبة الشديدة فى خلق خيط أو جسر صلة يربط ما بين محمد وإبراهيم «أبو الأنبياء»، وجانب التكلف فيه واضح، فى ظل نص القرآن الكريم على العلاقة الوطيدة بين الاثنين، والتأكيد على أن محمد جاء على ملة إبراهيم، أى ملة الإسلام. ويمكننا فقط القبول بتلك القصة، فى سياق الثقافة العربية التى لم تكن تمانع فى أن يذبح البشر بعضهم بعضاً لأتفه الأسباب، يكفى أن نستشهد فى هذا السياق بحرب «داحس والغبراء»، وعلى سبيل الاستئناس أشير إلى أن الفارق بين «داحس» و«داعش» حرفان، وكلاهما على نفس الوزن! يبدو الذبح فكرة عربية أكثر منه فكرة إسلامية، تتأسس على المزاج القبلى والانحياز للعصبية. وقد حارب القرآن هذه المعانى اللاإنسانية. والله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ». ولفظ الناس واضح فى دلالته على البشر جميعاً، والدليل على ذلك السياق الدلالى لسورة الناس: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ». فالشيطان يوسوس لجميع البشر، اللهم إلا إذا كان الدواعش يرون أن الشيطان شغلته المسلمون فقط! هل يُعقل بعد ذلك أن نقبل ما تقوله كتب السيرة والحديث حول عبارة «جئتكم بالذبح»؟! إنها عبارة اخترعها العرب اختراعاً وحاولوا نسبتها إلى النبى ليبرروا لأنفسهم أنهار الدماء التى أراقوها فى صراعهم على الحكم بحد «السيف».