يزفون إليك في مصر نبأ الموت، بصياغة بارعة، فتراه بداية النهاية، تتعدد صياغات أنباءه وأوصافه ما بين "رحيل، ووفاة، ومقتل، ومصرع، واستشهاد، وانتحار، واغتيال، وذبح"، وتتنوع الطقوس، في شواهدها الحديث، من زيارة القبور في أعياد ومناسبات دينية، أو تمسح بمقامات الأولياء الصالحين، أو حتى الاتشاح بالملابس السوداء، وإقامة ذكرى الأربعين، وكلها دلائل على قدسية الموت عند المصريين، فهي ليست وليدة اليوم، فلو عدت بالزمن لأكثر من 7000 عام مضى، تجد للموت قدسية خاصة عند الفراعنة، جعلتهم يتخذون إلهًا للموتي، هو "أوزوريس"، إلهًا رمزيا للبعث والحساب، ولم يكتفوا بالرمزية، فترك بناة الأهرام سرا معماريا وطبيا في بناء مقابرهم وتحنيط جثث موتاهم، وحركوا نعوشهم إلى العالم الآخر في مواكب، وشيدوا معابدا جنائزية، بقت خالدة تذكرهم وتحدث العالم عن حضارتهم، التي يعتبر الموت جزءا أصيلا فيها. ليس هناك أغرب من الموت.. إنه حادث غريب.. أن يصبح الشيء.. لا شيء.. ثياب الحداد.. والسرادق.. والمباخر.. والموسيقى.. ونحن كأننا نتفرج على رواية.. ولا نصدق ولا أحد يبدو عليه أنه يصدق.. هكذا يصف العالم والفيلسوف دكتور مصطفى محمود، في كتابه "لغز الموت"، مشهد الموت المهيب، فهو لحظات تتكر في حياتنا كل يوم، ورغم ذلك نتعجب إليها، ونضع علامات الاستفهام فيها، ولكن تلك الدهشة، تأتي ليس من الموت، ولكن لوجوهه المتعددة، والتي تظهر جلية واضحة على الساحة المصرية فيظهر لهذا الموت وجوه في أحداث ووقائع ومشاهد تختلف ملامحها ولكنها فى النهاية " نهاية " ومعها "جثث ودماء وأشلاء بشرية" وأحزان باتساع الكون ، الحديث عن الموت أكثر من ترديد كلمة الحياة نفسها ، الفقد صار السلطان الأعظم على قلوب المصريين ، واذا كان الموت دراما فان لحقيقته وجوه. - الوجه الأول.. الموت ذبحا: ليس هناك أبشع، مما شاهده الملايين في العالم كله من مشاهد جريمة ذبح 21 مصريا في ليبيا على يد عصابات إرهابية متطرفة، ترى في نفسها "دولة إسلامية"، وتشوه رسول الأمة، المبعوث بالسلام والرحمة، وتدعي أنه بعث بالسيف رحمة للعالمين، فشيدت على الدماء أركان دولتها المزعومة، وساق مسلحوها ضحاياهم ب"بدل الإعدام البرتقالية" أمامهم لمشهد ذبح مخيف، فمن على شواطئ طرابلس الليبية، وقف ملثموهم المتشحين بالسواد، واضعين الخناجر في ظهور ضحاياهم العزل، يردد قائدهم رسالة مكتوبة بالدماء، قبل أن تجتز خناجرهم رقبة قبطي، لم يزحزحه ترهيبهم وإرهابهم عن عقيدته، ولم يروه وهو يتمتم بين شفتيه آيات من الكتاب المقدس "الإنجيل"، ليكون آخر كلمات خرجت من قلبه قبل لسانه "الرب- يسوع- المسيح"، تلك هي عقيدته، وليس عقيدة من اعتقد أنه قاتله، الذي تحركه ومن حوله كالقطيع أفكار متطرفة ساقها إليهم رؤوس جماعته، ونسوا قول الله تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ". - الوجه الثاني.. الموت شنقا: "قرر التخلص من حياته لمروره بضائقة مالية أو لخلافات عائلية أو ل........"، متون عديدة لنبأ الانتحار، رأيناها أمام أعيينا عبر الشاشات، وقرأنا تفاصيلها في سطور وأعمدة الصحف، فتلك وقائع استشرت في مجتمعنا كالوباء في فترة زمنية وجيزة، ودفعت الخبراء للتحليل السياسي والنفسي والاجتماعي، ورغم تعدد طرق الانتحار بين "الشنق، وتعاطي الأقراص المخدرة، وإطلاق الرصاص على النفس"، إلا أن مصر بأثرها توجهت بأنظارها في صباح يوم الأربعاء، 24 سبتمبر، نحو لوحة إعلانية كانت أعلى الطريق الصحراوي، لتشاهد منتج جديدا، ليس كباقي السلع، وإنما هو دعاية علنية للموت شنقا "عندما تدلت جثة شخص بحبل من أعلى اللوحة"، في مشهد رصدته عدسات المصورين، وتناقلته وسائل إعلام مصرية وعالمية، ورغم أن "الموت شنقا في مصر"، هو القصاص، الذي أقره القانون المصري من القتلة والسفاحين، ليكون "حبل المشنقة" هو رمز لحكم الإعدام، و"عشماوي" رمز تنفيذه، ولعل إعدام قاتل ابنة الفنانة "ليلى غفران" منذ شهور، في القضية المعروف إعلاميا بقضية "هبة ونادين"، كان آخر الأحكام المنفذة، التي أطلع عليها الرأي العام. - الوجه الثالث.. الموت تحت عجلات القطار: ولمصر رقما قياسيا في حوادث القطارات البشعة، فعجلات القطارات كثيرا ما دهست ومزقت أشلاء، لم تفرق بين رجل وامرأة، شابا رجلا، عجوزا أو طفلا، وبذكر الأطفال، كانت الدماء على كراريس 47 من أطفال المعهد الأزهري بأسيوط، في نوفمبر عام 2012، آخر ما تبقى منهم على القضبان، فراحت أجسادهم أشلاء جراء حادث تصادم أتوبيس مدرستهم بقطار على مزلقان السكة الحديد في منفلوط، في كارثة لم تكن الأخيرة، بل كانت جرحا في وجه قبيح للموت. - الوجه الرابع.. الموت غدرا "الطرف الثالث": كانت آخر بقاع الدم، التي امتلئ بها هذا الوجه، ما نزفت به شهيدة الورد شيماء الصباغ، على أرض ميدان طلعت حرب، عندما خرجت في مسيرة سلمية برفقة مجموعة من الشهداء، لتنعي الشهيد في ذكرى ثورته، وتضع أكاليل الورود على ضريحه في ميدان الشهداء "التحرير"، فقنصت برصاصات غادرة، أودت بحياتها، وظل مشهد احتضانها لزوجها، وروحها تفارق الحياة محفور في الذاكرة، فزفت روح "شيماء" النبيلة إلى بارئها في السماء، وحمل جسدها ملفوفا بعلم مصر، لتوُدع في ضريح الشهداء في مرتبة "عماد عفت، ومينا دانيال، وخالد سعيد، وقائمة طويلة..، كانت ورود عطرة تفتحت في حب مصر. - الوجه الخامس.. الموت غرقا: أمواج عاتية، ورياح غادرة، اختلطت بتخبط وإهمال دولة، أودى بحياة المئات في "فبراير الأسود" منذ 9 أعوام، عندما غرقت العبارة "السلام 98"، المملوكة لشركة السلام للنقل البحري، في البحر الأحمر، وهي في طريقها من ميناء ضبا السعودية إلى سفاجا، وكانت تحمل على متنها 1312 مسافرًا، و98 من طاقم السفينة، بينهم 115 أجنبيًا، ومعظم المسافرين مواطنين مصريين، كانوا تنتظرهم أسرهم بعد غياب شهور وسنوات، فتحولت نظرة الشوق واللهفة للابن الغائب إلى نظرة وداع على جثمانه الغارق. - الوجه السادس.. الموت حرقا: النيران تلتهم كل شيء، ولكن عندما تكون أجساد الناس وقودها، نرى أبشع أنواع "الموت"، ليست مصر بعيدة عنه، وبالرجوع بعجلة الزمن لفبراير الحزين من عام 2002، كان ما حدث في القطار رقم832 المتوجه من القاهرة إلى أسوان، عقب مغادرته مدينة العياط عند قرية ميت القائد، حينما اندلعت النيران في العربة الأخيرة بالقطار، وانتقلت للعربات المجاورة، فحصدت أرواح المئات، تلك جثث متفحمة ضاعت معالمها، وأشلاء بشرية مصهورة، سارت أكوام لحم مختلطة ببعضها، ذلك المشهد، كان وجه مأساوي للموت. - الوجه السابع.. الموت على الأسفلت: أسرع أنواع الموت، ضحاياه تتغير أرقامهم على عدادات الموتى في كل ثانية، فنزيف الأسفلت وضع مصر في مرتبة متقدمة، تحصد بها 131 قتيلاً كل 100 كيلومتر على الطرق، في حين لا يتجاوز المعدل العالمى 20 قتيلاً، فيوميا عشرات الحوادث على الطرق، والضحايا بين جريح ومتوفي، كان أبشعها خلال الفترة الماضية، ما حدث من اصطدام 3 سيارات بطريق مصر إسكندرية الزراعي، أسفر عن مقتل 18 طالبا وإصابة 18 آخرين. - الوجه الثامن.. موت الواجب: ذلك الموت الموقوت، "المحسوب" على عدادات قنابل الإرهاب، فيتفنن أصحاب العقول الخربة في دمارهم، ولدغاتهم السامة، فاستشرى إرهابهم في جسد "الوطن" ليضعفه، بتفجيرات واستهدفات عدة لجنود ومدنيين، كان آخرها من أرض "الشجرة المباركة"، التي بدلا من أن ترويها مياه التنمية، روتها دماء الشهداء من أبطال "الكتيبة 101"، ومن سبقوهم، ف30 ينايرالماضي، كان موت 30 من جنودنا مفاجأة على المصريين، حسب الإرهابيون توقيتها وضجيجها، ولكنهم لم يحسبوا لأم تنزف من عينيها دمعا، وأب رجت صرخاته ودعواته السماء حزنا، ليكون طعنات الإرهاب من الظهر، وجه للموت الأسود في تلك الأيام. - الوجه التاسع.. الموت بالإهمال: تتنفس أركان كثيرة بمؤسسات الدولة إهمالا، ولكن أن يودي الإهمال بحياة المواطنين، فهذا هو الوجه المريب للموت في مصر، مقتل التلميذ يوسف محمد بمدرسة عمار بن ياسر بإدارة المطرية التعليمية، مثالا صارخا للإهمال المزدوج، فالطفل الذي كان جالساً على مقعده بفصله، في صباح يوم 21 أكتوبر الماضي، تهشم زجاج النافذة على رأسه، في غياب تام من الرقابة المدرسية، واستكملت مأساته، عندما رفضت مستشفى المطرية علاجه، فدار به أهله بين المستشفيات، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بين أحضانهم. - الوجه العاشر.. الموت تحت الأنقاض: كومة من التراب، تساوت الأجساد بالأرض، هذا حال البنية المشيدة في أبراجها، خالف أصحابها ضمائرهم، فراح عشرات الضحايا في مأساة، تتكرر بين الحين والآخر، كان آخرها ما حدث بعقار المطرية، والذي راح ضحيته 11 شخصا، وعدد مماثل من المصابين، فأنقاض المنازل في مصر كثيرا ما احتضنت الموتى.