«الحرق» بالنار كأداة للعقوبة موضوع منقطع الصلة بالثقافة العربية. والأرجح أنه عقوبة ترتد بجذورها إلى الثقافة الفارسية. وقد اعتبر القرآن الكريم «الحرق» عقوبة همجية تتنافى مع إنسانية الأديان السماوية. ورد هذا الموضوع فى النص القرآنى فى سياق قصة نبى الله إبراهيم عليه السلام، عندما تحدى قومه وحطم أصنامهم، ونادى بعبادة الواحد الأحد، فما كان من قومه إلا أن قرروا قتله حرقاً: «قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ»، وقد حفظه الله تعالى من كيدهم بأن جعل النار برداً وسلاماً عليه، بمعنى أنه سبحانه وتعالى عطل القوانين التى تحكم النار، فبدلاً من أن تكون أداة للحرق أصبحت مصدراً للبرد والسلام: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ». ويحكى «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ» عن عبدالله بن عمر أنه قال: «أشار بتحريقه -أى نبى الله إبراهيم- رجل من أعراب فارس، قيل له: وللفرس أعراب؟ قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل: كان اسمه هيزن، فخسف به، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». الأرجح إذاً أن عقوبة الحرب ترتد بجذورها إلى الثقافة الفارسية، وقد يمنحك هذا الأمر مؤشراً مبدئياً عن العلاقة بين الفكر والأداء الداعشى ودولة إيران وريثة عرش النار، حين قرر التنظيم تطبيق عقوبة الحرق على الطيار الأردنى «معاذ الكساسبة»، فى مشهد أتصور أنه سيرسخ لسنوات طويلة فى ذاكرة الإنسانية. ولو أنك استذكرت بعض الأحاديث النبوية التى تناولت موضوع «الحرق»، فسوف تجد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان حريصاً على الاتساق مع النظرة القرآنية التى تضع هذا الفعل فى مصاف الأفعال اللاإنسانية. جاء فى صحيح البخارى: «حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبى هريرة رضى الله عنه، أنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعث فقال إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إنى أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما». الحرق بالنار مرتبط بالأساس بالثقافة المجوسية الفارسية، وبإمكانك أن تجد لها ظلالاً فى جذور الثقافة اليهودية أيضاً، عندما أحرق ملك اليمن «ذو نواس» نصارى نجران، وهو ذلك المشهد الذى حكاه القرآن الكريم فى سورة البروج: «قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ». كان العرب يخافون النار ويحذرونها، وليس أدل على ذلك من اعتناء القرآن الكريم بالانطلاق من الثقافة العربية وهو يصف مكافأة الطاعة (الجنة) أو عقوبة المعصية (النار). فالجنة حدائق وبساتين ونخل وأعناب ورمان وأنهار من خمر ومن عسل مصفّى، كان هذا الوصف القرآنى قادراً على إثارة خيال العربى الذى يعيش فى صحراء جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، والأمر نفسه ينطبق على النار كأداة للعقوبة، فقد جعلها الله فى النار الحارقة، اتساقاً مع حالة الفزع التى كانت تصيب العربى من فكرة «الحرق». يدلل لك أيضاً على خطورة النظرة إلى مسألة الحرق أن النبى صلى الله عليه وسلم صنّف الميت حرقاً فى فئة الشهداء. كما جاء فى الحديث النبوى الذى سأل فيه الرسول الصحابة قائلاً: مَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: الْقَتْلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. فعدد لهم النبى سبعة أنواع للشهادة سوى القتل كان من بينها صاحب الحريق: «وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ». وكان صلى الله عليه وسلم يوصى مقاتليه ألا يحرقوا نخلاً: «ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه»، فما بالك بحرق إنسان!. ذلك هو موقف الأصلين الكبيرين (القرآن والسنة) من مسألة المعاقبة ب«الحرق»، لكن الأمر يختلف كل الاختلاف حين نراجع كتب التراث التى تحكى قصصاً متنوعة عن ارتكان بعض الصحابة والتابعين إلى «الحرق» فى معاقبة أعدائهم وخصومهم. فقد جاء فى بعض كتب التراث أن خالداً بن الوليد أحرق بعض المرتدين بالنار، لكن القصة الأخطر ترتبط بالخليفة الأول أبى بكر الصديق، وقد حكاها ابن الأثير فى «الكامل»، وجاء فيها: «أن إياس بن عبدياليل جاء إلى أبى بكر فقال له: أعنّى بالسلاح أقاتل به أهل الردة. فأعطاه سلاحاً وأمره إمرة، فخالف إلى المسلمين وخرج حتى نزل بالجواء، وبعث نخبة بن أبى الميثاء من بنى الشريد وأمره بالمسلمين، فشن الغارة على كل مسلم فى سليم وعامر وهوازن. فبلغ ذلك أبا بكر -رضى الله عنه- فأرسل إليه من أسره وبعث به إليه. فأمر أبوبكر أن توقد له نار فى مصلى المدينة ثم رُمى به فيها». ومن العجيب أن تجد فى كتاب «الكامل» نفسه حكاية ذات صلة بابن أبى بكر «محمد» الذى كان واحداً من الذين ثاروا على عثمان بن عفان رضى الله عنه، وتدور أيضاً حول فكرة «الحرق». يقص علينا «ابن الأثير» هذا الحوار الذى دار بين معاوية بن حديج وابن أبى بكر: «قال لهم محمد بن أبى بكر: اسقونى ماءً. فقال له معاوية بن حديج: لا سقانى الله إن سقيتك قطرةً أبداً، إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق! فقال له محمد: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله، يسقى أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك، أما والله ولو كان سيفى بيدى ما بلغتم منى هذا. ثم قال له: أتدرى ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: إن فعلت بى ذلك فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإنى لأرجو أن يجعلها عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو ناراً تلظى كلما خبت زادها الله سعيراً. فغضب منه وقتله ثم ألقاه فى جيفة حمار ثم أحرقه بالنار». عدم الدقة فى هذه الحكايات واضح لكل ذى بصر، فهى أقرب إلى الانتحال منها إلى الحقيقة، فلا يعقل أن يفعل أبوبكر أو خالد ذلك، وهما اللذان رُبيا فى حجر النبوة، ويعلمان من القرآن الكريم أن الحرق عمل همجى، ارتبط بعبدة النار، وسمعا أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم التى تنهى عن الحرق بالنار. ووجه التلفيق يشخص واضحاً فى ذلك الربط بين قيام أبى بكر بحرق «إياس»، وقيام معاوية بن حديج بحرق ابنه «محمد» خلال أحداث الفتنة الكبرى، وكأن موضوع الحرق مرتبط ب«البكريين» فى المقام الأول، وهى محاولة ساذجة للإساءة إلى شخص أبى بكر، تمنحنا مساحة للظن بأن وراءها أصابع حاولت الإساءة إلى هذا الصحابى الجليل، وهى لا تبتعد بحال عن عبدة النار، أبناء الثقافة المجوسية. لقد استندت «داعش» إلى هذه الحكايات المريبة فى شرعنة جريمتها التى أساءت إلى الإسلام ونبى الإسلام أكثر مما أساء إليه أصحاب الرسوم الساخرة، وهى تفرض على المعنيين بشأن التراث ضرورة مراجعة كل سطر فيه وتخليصه من الأفكار التى تتناقض مع صريح القرآن وصحيح السنة. كفانا جهلاً وخبلاً.