الفرق بين العاقل والأبله، أن العاقل «يخطط»، أما «الأبله» فيتحرك من وحى اللحظة، ويتصرف فى المواقف المختلفة طبقاً لسيناريو يمكن وصفه ب«سيناريو اللحظة». وقد شهد التاريخ والواقع المعاصر لهذا البلد ثورتين. ولو أنك راجعت، بقدر معقول من الدقة، النقاط الفاصلة التى تدخلت فى تشكيل مسار الأحداث عامى 1952 و2011، فسوف تجد أن المنطق الذى حكم التصرف فى ثورتى يوليو ويناير هو: منطق اللحظة. ولنبدأ بالليلة الأولى من ليالى ذلك الماضى والحاضر: ليلة 23 يوليو 1952. فى مساء إحدى ليالى الحصار فى «الفالوجا» -أثناء حرب فلسطين- نبتت فكرة القيام بثورة فى ذهن الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر»، وذلك فى لحظة فارقة أدرك فيها أن نكبة الأمة فى فلسطين سببها هناك فى القاهرة، حيث الملك الفاسد، وسيطرة الإقطاع على أرزاق ملايين الفلاحين، وفساد الأحزاب التى لا تفكر فى صالح هذا البلد، قدر ما تقدح زناد عقلها فى ألاعيب الوصول إلى السلطة. وبمجرد عودته من الحرب بادر «عبدالناصر» إلى تشكيل تنظيم الضباط الأحرار الذى تبلورت هيئته التأسيسية بصورة كاملة أواخر عام 1949. لم يكن فى نية جمال عبدالناصر أن يتحرك بالجيش ضد الملك يوم 23 يوليو 1952، بل كان ينوى أن يقوم بوثبته على الحكم يوم 4 أو 5 أغسطس من ذلك العام، حتى يكون الضباط قد قبضوا مرتباتهم!، بالإضافة إلى اكتمال وصول إحدى كتائب المشاة المخطط مشاركتها فى الثورة، لكن حدث أن تسربت إليه معلومات -من خلال الصحفى الشهير أحمد أبوالفتح- عن تجهيز 14 زنزانة للضباط المتمردين على الملك بعد أن وصله كشف بأسمائهم. من وحى هذه اللحظة قرر «الأحرار» تحديد الساعة الواحدة من ليلة 23 يوليو، لتنفيذ المخطط والانقلاب على الملك، ولأن القرار كان محكوماً بسيناريو اللحظة فقد كادت الحركة أن تفشل، بعد أن علم الملك بأمرها وأعطى أوامره لقائد الجيش «الفريق حسين فريد» بالتحرك ضدها وإجهاضها، لولا أن البكباشى «يوسف صديق» تحرك بقواته إلى مقر القيادة العامة للجيش فى منتصف ليل 22 يوليو، أى قبل الموعد بساعة كاملة، وكان تحركه بوحى اللحظة والصدفة البحتة!، فقد تم إبلاغه أن موعد انتقاله بجنوده وآلياته لاحتلال مقر القيادة هو الواحدة، ويبدو أنه لم يركز عند الاستماع إلى من أبلغه بالموعد!، أو أن الفكرة واتته فى لحظتها فقرر أن يتحرك قبل الموعد، تحسباً لأية ظروف طارئة. المهم أن «التفكير اللحظى» كان سيد الموقف، وبه ومن خلاله نجح «العسكر» فى إسقاط الملكية لنطوى صفحة من تاريخنا وتبدأ أقدارنا فى رسم صفحة جديدة، مشروطة ب«لحظة»!.