- مشكلة الليبرالية تتعلق دائماً بالليبرالية الاقتصادية المتوحشة، والتى تعنى التحرر الكامل للاقتصاد وطغيان منطق السوق والربح على حساب العدالة الاجتماعية، ولذلك نشأ فى الكثير من الدول الأوروبية وأمريكا اللاتينية فى نهاية القرن الماضى الفكر الجديد الذى يجمع ما بين الليبرالية السياسية واليسار الاجتماعى، وهذا الفكر يسمى: «الديمقراطية الاجتماعية - Social Democracy» حصلت الديمقراطية الاجتماعية على مصداقيتها من خلال مبادئ التنمية الإنسانية ومحاولة تعظيم المكاسب الحاصلة من الليبرالية السياسية وتخفيض الضرر الذى تتسبب به الليبرالية الاقتصادية، وذلك بدمج مفاهيم «العدالة الاجتماعية» مع الليبرالية السياسية. إنها محاولة جريئة أثبتت الكثير من النجاح فى تعظيم مصداقية الليبرالية السياسية، واستعادة دور اليسار الديمقراطى فى أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وكبح جماح الليبرالية الاقتصادية المتوحشة. - مشكلة الليبرالية الاقتصادية أنها تريد إيقاف دور الدولة فى المجتمع وتحويل الخدمات الصحية والتعليمية والتنموية المختلفة إلى القطاع الخاص ونظام السوق، وهذا ما يشكل تناقضاً تاماً ومباشراً مع حقوق الإنسان ومع التنمية، ولهذا جاء الفكر الديمقراطى الاجتماعى، ليحاول محاربة التغول الاقتصادى الليبرالى. الديمقراطية الاجتماعية تعتمد على الإصلاح التدريجى للنظام الاقتصادى بإدخال مفاهيم «دولة الرفاه الاجتماعى»، والعدالة الاجتماعية ودمجها مع الليبرالية السياسية المعتمدة على الحريات وحقوق الإنسان وتنظيم الحرية الفردية ضمن إطار واضح من المصلحة الجماعية. - كان أول من استعمل مصطلح: «دولة الرفاه الاجتماعى» المستشار الألمانى فرانتز فون بابن عام 1932 فى مهاجمة التشريع الاجتماعى الشامل لجمهورية فايمر، ولم يكتسب هذا المصطلح دلالة إيجابية إلا فى مستهل أربعينات القرن العشرين عندما أراد رئيس أساقفة كانتربرى: وليم تمبل أن يقارن بين اهتمام النظام الديمقراطى البريطانى برفاهية مواطنيه وبين روح العنف فى ألمانيا النازية، ولم تبدأ فكرة مسئولية الدولة عن رفاهية مواطنيها مع نشوء دولة الرفاه الحديثة، لقد اعتبر قانون «حقوق الفقراء»، الذى سن فى بريطانيا عام 1601 بمثابة القانون الرائد فى هذا المجال لأنه حدد لأول مرة التزامات سلطات الدولة تجاه رفاهية مواطنيها، غير أن هذا القانون والقوانين التى تلته فى بريطانيا، وفى دول أخرى ركزت مسئولية الدولة فى الناس الذين لم تكن لديهم أية إمكانية للحد الأدنى من البقاء بدون مساعدة المجموع لهم، أضف إلى ذلك أن هذه المساعدة كانت دائماً محدودة للغاية ومقرونة بشروط مهينة ومزعجة، يرتبط النموذج الأصلى لدولة الرفاه باسم بريطانيين هما: جون مينارد كينز، ووليم بفريدج، وقد ارتبط اسم وليم بفريدج بدولة الرفاه بشكل أساسى بفضل وثيقة قدمها للحكومة البريطانية عام 1924 تتناول تنظيم خدمات الرفاه فى الدولة، وأطلق عليها اسم: «خطة بفريدج» التى كانت خطة عمل من أجل تكوين دولة رفاه، ذهب بفريدج فى الوثيقة إلى أنه يمكن مكافحة العوز والقضاء على الفقر بواسطة خلق تشغيل تام وإقامة جهاز شمولى للضمان الاجتماعى يكفل لكل إنسان الحق الأدنى من أجل البقاء وحرية الحصول على خدمات الرفاه، التربية، والصحة بغض النظر عن دخله. إن ما يميز خطة بفريدج يكمن فى أنها اقترحت جهازاً يخدم كل المواطنين ويموله الجميع. لم يعد هناك جهاز معونة يخدم المحتاجين وهامش المجتمع فحسب، بل جهاز يقدم لكل فرد فى المجتمع بغض النظر عن مكانته أو وضعه الشروط التى تكفل بقاءه بكرامة منذ يوم ولادته وحتى يوم وفاته، استطاع بفريدج بفضل خطته أن ينقل الاهتمام بهذه المواضيع من هامش حلبة الجدل السياسى والمجتمع إلى مركز المسرح السياسى والاجتماعى، لقد سعى منذ البداية قاصداً إلى خلق شعور فى أوساط المواطنين -على مختلف طبقاتهم- بأن لهم مصلحة مباشرة فى جهاز ضمان اجتماعى غير مخصص للفقراء والمساكين فحسب، بل يمنح الحقوق الاجتماعية، والأمن لكل مواطنى الدولة. - هذا وتعتمد الديمقراطية الاجتماعية على مجموعة من المبادئ منها: ■ الحريات: وهذه غير مقتصرة على الحريات الفردية، مثل النظام الليبرالى الكلاسيكى ولكن الحريات الجماعية مثل حقوق الإنسان ومكافحة التمييز والتخلص من سطوة أصحاب وسائل الإنتاج والنفوذ السياسى. ■ المساواة والعدالة الاجتماعية: ولا يقتصر ذلك على المساواة أمام القانون، بل أيضاً العدالة والمساواة فى التنمية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتساوى فى الفرص المتاحة أمام الجميع بدون تمييز. ■ التضامن الاجتماعى: وهو يعنى الوحدة والإحساس بالتعاطف مع ضحايا السياسات والممارسات غير العادلة ومحاولة تحقيق العدالة للجميع. ■ الديمقراطية وحقوق الإنسان: تتضمن الديمقراطية حقوقاً وواجبات، ولكن أهم هدف لها هو ضمان الحقوق المتساوية لكل المواطنين من مختلف الأصول والأعراق والأفكار السياسية وتمتع المواطنين بحق الاختيار ما بين نظريات وبدائل مختلفة ومتعددة. - ومن وجهة نظرى، فإن مبادئ دولة الرفاه الاجتماعى والديمقراطية الاجتماعية هى المناسبة للحالة المصرية، وعلى الدولة دراسة هذه المبادئ والعمل على تحقيقها ونحن نبنى نظامنا السياسى والاجتماعى والاقتصادى الجديد، ولعلنا نتذكر التفاعل الشعبى العاطفى مع عبارة: «إن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه»، والتى وردت فى بيان القوات المسلحة الذى سبق ثورة 30 يونيو، والذى يعكس مدى احتياج أبناء الشعب إلى دعم وتطوير دور الدولة فى ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية.