كانت الحافلة المقلة للبعثة الإعلامية المصرية التى تغطى زيارة الرئيس السيسى إلى الصين تتجه إلى قاعة الشعب، حيث يلتقى الرئيس الصينى. جلست إلى جوار الباحث العلّامة الدكتور حسن أبوطالب رئيس مجلس إدارة دار المعارف حالياً وهو خبير بالشأن الصينى، أما أنا فكانت تلك زيارتى الأولى وكنت متلهفاً أشد اللهفة. أبديت ملاحظة على بكين مفادها أننى صدمت صدمة كبيرة فى العاصمة الصينية. التراث يغيب عنها غياباً كاملاً. لا أثر للمبانى الصينية القديمة المزخرفة وما أراه وألمحه ليس إلا ناطحات سحاب أسمنتية فى شوارع واسعة لا تعنى لى الكثير، لأننى شهدت فى الغرب ما يفوقها ارتفاعاً وتوحشاً أسمنتياً. قص علىّ الدكتور حسن قصة بكين الجديدة التى هدمت وأعيد بناؤها بالكامل فى الفترة من 1992 إلى 2000 تقريباً. تخلص الصينيون من مظاهر الفقر فى العاصمة وما صاحبها من خيام ومظاهر غير حضارية. بنوا مدينة جديدة فى سنين قليلة وشيدوا أبنية حديثة أرسلوا بها رسالة أنهم دخلوا الألفية الثالثة. البناء الأسمنتى لم يكن حالة متفردة. فقد صاحبه تقدم اقتصادى رهيب يحكى لى عنه الدكتور حسن أبوطالب الذى لا يضن بعلمه وكأنه أدرك أننى لم أذاكر جيداً قبل الذهاب إلى الصين، فعوضنى بدرس خصوصى مركّز، فالتجربة الصينية كلمة السر فيها الحزب الشيوعى. والحزب الشيوعى هو الحاكم الحقيقى للبلاد والعباد. الحزب الذى يفهم من اسمه أنه لم يعد صيحة العصر بعد سقوط الشيوعية ومعها أقطاب المعسكر الشرقى. غير أن الصين لم تسقط أو تستسلم. تفهم الحزب التغيرات التى طرأت على المشهد الدولى ونظر إلى الداخل وعدل من سياساته وأطلق العنان لإمكانية الاستفادة الشخصية غير المشروطة من ثمار العمل. وعدل الحزب من أدبياته وضم طبقات الفلاحين والعمال إلى الحزب ولجانه، كما ضم رجال الأعمال وطبقة المديرين وهم الذين ترقوا فى الشركات الدولية المتعددة الجنسيات التى ذهبت للاستثمار هناك. خلاصة التجربة أن الحزب الشيوعى الصينى خلق منصة تحتاجها قطاعات واسعة من الشعب. فلو لم تجد قطاعات من الشعب تلك المنصة جاهزة لاعتلائها لخلقت لنفسها منصة تتعامل منها مع ما حولها. المنصة التى أوجدها الحزب الشيوعى الصينى لقطاعات الشعب الجديدة بعد انفتاح اقتصادى وارتفاع فى مستوى الدخل هو إفساح المجال أمامهم للعمل السياسى فى أروقته بعد تدريب وتثقيف لضمان استمرار الخط السياسى، ثم خلق منصات تحتاجها الطبقات الثرية الجديدة، مثل المدارس الدولية والمساكن الفاخرة داخل أسوار المنتجعات السكنية، وكذلك شجعت أدبيات الحزب الصينيين الذين كانوا منغلقين على أنفسهم على استخراج جوازات السفر والخروج إلى العالم الرحب الواسع للسياحة فيخرج سنوياً 140 مليون صينى للسياحة الدولية. الحزب أيضاً رفض تملك الناس للأراضى، لكن منحهم حق الانتفاع ليبقيهم فى مقاطعاتهم ومدنهم وقراهم من أجل الحد من الهجرة الداخلية إلى أماكن الجذب الحضارى. وثار الحزب داخلياً على الفساد ويمكنك أن تقرأ فى صحيفة «تشاينا ديلى» الناطقة بالإنجليزية فى بكين أنباء القبض على فاسدين. الرغبة صادقة فى تقليص الفساد وهزيمته لا القضاء عليه. التجربة طويلة وعميقة وأكبر من أن نعرضها فى مقال لكن الدروس المستفادة نلخصها فى نقطتين: الأولى أن عين الدولة والحكم لا بد أن تكون على الشعب للوفاء باحتياجاته وإلا خلق الشعب منصة جديدة، الثانية: العمل الدؤوب بإخلاص وتفانٍ ورضا وإتقان هو السبيل الوحيد لازدهار أى شعب. عل قومى يفقهون.