يوم الخميس 4 ديسمبر سيظل يوماً مهماً فى التأريخ للمرحلة الانتقالية التونسية التى توشك أن تُدرِك نهايتها بانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة. ففى هذا اليوم بدأت تظهر بوادر تغير فى تحالفات القوى السياسية الرئيسية، وذلك بعد أن انتُخب محمد الناصر من حزب نداء تونس كرئيس لمجلس نواب الشعب بواقع 176 صوتاً من أصل 217، وانتُخب عبدالفتاح مورو من حركة النهضة كنائب أول للرئيس بواقع 157 صوتاً، فيما حلت فوزية بن فضة من الاتحاد الوطنى الحر كنائبة ثانية للرئيس بعدما حصدت 150 صوتاً. هذه التركيبة السياسية الجديدة تصفها مباركة عوينية، مرشحة حزب الجبهة الشعبية، التى خسرت فى التصويت أمام عبدالفتاح مورو، بأنها تجمع بين اليمينين الدينى والليبرالى، كما أن هذه الترويكا ترشحها بعض التحليلات لكى تحل محل الترويكا التى حكمت تونس من 2011 حتى 2013، وكان أطرافها: حركة النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطى من أجل العمل والحريات. فى تحليل المعنى المباشر الذى تنطوى عليه تركيبة هيئة مكتب مجلس نواب الشعب، يمكن القول أنها جاءت ثمرة تنسيق تام بين النهضة ونداء تونس، وذلك رغم أن أحد أهم أسباب ظهور نداء تونس فى الحياة السياسية هو منع وصول النهضة للحكم والحفاظ على مدنية الدولة والمكتسبات البورقيبية، وعندما ظهرت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية وحصد «المرزوقى» 33% من أصوات الناخبين صرح «السبسى» بأن من صوتوا ل«المرزوقى» كانوا أساساً من الإسلاميين، وكان بذلك يغمز فى النهضة التى أعلنت الحياد بين المرشحين الرئاسيين، بينما وجهت أنصارها فى السر لتأييد «المرزوقى». وفى المقابل فإن صورة حزب نداء تونس لدى النهضويين، خصوصاً قواعدهم، هى صورة الحزب الذى يستنسخ الماضى إلى حد اعتبار بعضهم التصويت للنداء فى الانتخابات التشريعية بأنه بمثابة «ثورة مضادة» فكيف إذن يجتمع النداء والنهضة؟ إنها مفاعيل السياسة التى تفرض التعامل بواقعية، مفرطة أحياناً، مع معطيات الوضع الداخلى والمتغيرات الخارجية. وهكذا بتنا نقرأ فى الصحف التونسية عن موت الأيديولوجيا وانتهاء الصراع الأيديولوجى لصالح علاقة شراكة تفيد الوطن، وعن المودة التى تجمع بين زعيمى النهضة والنداء، كما تحول فجأة عامل السن الذى كان سبباً فى انتقاد الحضور السياسى ل«السبسى» إلى مصدر لتوليد الحكمة عند الشيخين «الغنوشى» و«السبسى» معاً. وفى سياق ذلك تم استدعاء بعض المناسبات التى تدخل فيها الرجلان لحلحلة المواقف المتأزمة، كما حدث مثلاً فى لقائهما فى باريس عام 2013 تمهيداً لإطلاق الحوار الوطنى، مع أن المشابهة غير دقيقة لأن هناك فارقاً بين التدخل الجراحى فى لحظات التأزم وبين الشراكة الثنائية التى ستمتد لخمس سنوات هى تاريخ عمل المجلس الحالى، فعلى مدار تلك السنوات سوف تُطرح قضايا يصعب على كل طرف فيها ألا يكون إلا نفسه. هل يمكن أن يكون اتفاق النداء والنهضة على شكل الترويكا التى ستحكم المجلس جزءاً من اتفاق أكبر يشمل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية وأيضاً توزيع الحقائب الوزارية؟ الواقع أن هناك حساسية مفرطة من كل الأطراف المحسوبة على الترويكا فى الإشارة إلى أى بنود غير معلنة للتفاهم أو إلى تعهدات تتجاوز حدود البرلمان. فعندما وُجِه سؤال بهذا المعنى إلى عبدالفتاح مورو، النائب الأول لرئيس المجلس، رفض تحميل الأمور فوق ما تحتمل، واعتبر أن التشكيل هو محض انعكاس للأوزان الانتخابية للقوى الثلاث: النداء والنهضة والاتحاد الوطنى الحر. كما أعاد «الغنوشى» فى اجتماع مجلس شورى الحركة قبل أيام التأكيد على ترك الحرية للأعضاء فى التصويت لأىٍ من المرشحين «السبسى» أو «المرزوقى»، مما يعنى أن تصويت حزب النداء لصالح رئاسة «مورو» للبرلمان لا ثمن له. لكن منطقياً يصعب تصور أن التفاهمات التى تمخض عنها تشكيل هيئة مكتب المجلس ليست لها أبعاد أخرى، وأن هذه الأبعاد لعبت دوراً أساسياً فى تسهيل الاتفاق على أشخاص رئيس المجلس ونائبيه والتصويت المريح لثلاثتهم. وإلا فقد كانت هناك سيناريوهات أخرى متاحة أمام النداء، من بينها سيناريو التصويت لمباركة عواينية، أرملة الشهيد محمد براهمى، التى رشحتها الجبهة الشعبية لمركز النائب الأول لرئيس المجلس، والتصويت لأحد مرشحى حركة النهضة كنائب ثانٍ لرئيس المجلس، لكن حزب النداء اختار التضحية بمرشحة الجبهة الشعبية لصالح مرشح النهضة؛ لأن استرضاء النهضة قبيل انعقاد الجولة الرئاسية الثانية أفيد وأهم. ومن جانبه فإن راشد الغنوشى الذى ضمن لنائبه فى الحركة عبدالفتاح مورو هذا الموقع المهم فى هيئة مكتب المجلس والذى يحرص على أن تدخل حركته فى تشكيلة الحكومة المقبلة كى لا تغيب عن واجهة المشهد وتحول دون ما يسمى تغول حزب الأغلبية، يعلم أنه لا امتيازات مجانية، وأن لكل شىء مقابلاً، وفى الأخير فأن يعين «السبسى» على فوزه المرجح أفضل من أن يراهن على «المرزوقى» الذى تتضاءل فرص فوزه. يذكر أن انتقادات واسعة وجُهت ل«المرزوقى» غداة الإعلان عن نتائج الجولة الانتخابية الأولى عندما بادر للتشكيك فى سلامة عملية التصويت، ورغم تأكيد الهيئة المستقلة العليا للانتخابات على أن الخروقات التى حدثت لا تنال من سلامة النتائج فإنه أصر على التقدم للمحكمة الإدارية بثمانية طعون، وعندما رفضتها المحكمة قرر الاستئناف، لكن «الغنوشى» توسط لديه كى لا يفعل، فراوغه واستأنف، فكان أن رفُضت طعونه مجدداً. هكذا بدا «المرزوقى» المدافع عن الديمقراطية غير متقبل للآلية الانتخابية ولا مقتنع بأن التلاعب لا يمكن أن يكون فى 800000 صوت تفصل بينه وبين «السبسى». تحدد يوم 21 ديسمبر 2014 موعداً للجولة الرئاسية الثانية فى تونس، ورغم أنه لا شىء مؤكداً فى التحليل السياسى فإننى أظن أن مشهد 4 ديسمبر رسم إلى حد بعيد فرص المكسب والخسارة للمرشحين «السبسى» و«المرزوقى».