بعد انتهاء مهمته كمسئول عن قناة «العربية»، كتب عبدالرحمن الراشد فى جريدة «الشرق الأوسط» معلقاً على هذه الخبرة معترفاً بأن «الحياد تمرين فكرى صعب»، لأن «كلنا أصحاب رأى، ومن لا رأى له فهو إمعة»، وأيضاً لأنه رغم أن وظيفة الإعلام هى تقديم الحقيقة مجردة، فإن «للحقيقة أوجهاً متعددة». بهذه الكلمات عبر الإعلامى البارز عن الأسئلة الصعبة التى تواجه الإعلام والإعلاميين، وعن التناقض الكامن فى مهنة الإعلام، فتقديم الحقيقة كما هى بلا لون ولا هوى أمر مستحيل، ورأى الإعلامى لن يفارقه حتى لو ادعى غير ذلك. التناقض الذى أتحدث عنه هو ذلك التناقض بين الطبيعة العمومية للإعلام، وبين الطبيعة الشخصية للمنتجات الإعلامية. كلمة الإعلام التى تعارفنا على استخدامها للإشارة إلى هذه المهنة هى اختصار للاسم الكامل والرسمى لهذه المهنة وهو «الإعلام الجماهيرى» mass media، ومن طبيعته الجماهيرية يكتسب الإعلام طابعه العمومى، وطبيعته كنوع من الخدمة العامة التى يتم تقديمها تلبية لاحتياجات عموم الناس الذين يدفعون ثمن هذه الخدمة بأشكال مختلفة أشهرها الثمن الذى يتم دفعه لشراء الصحيفة، أو ضريبة الإذاعة والتليفزيون التى ما زالت سارية فى كثير من البلاد فى أوروبا وغيرها. لكن من ناحية أخرى فإن المنتج الإعلامى هو رأى شخصى لصاحبه، كما لو كان عموم الناس من مستهلكى الإعلام يدفعون من مالهم الخاص لتمكين بعض الأفراد الذين اتخذوا من الإعلام مهنة لهم من التعبير عن رأيهم الشخصى. ففيما يبذل عموم الناس الجهد والمال لإسماع رأيهم للآخرين، فإن الإعلاميين خلافاً لكل الناس يحصلون على المكافأة مرتين، مرة عندما يعبرون عن رأيهم، ومرة عندما يكافأون مالياً عن ذلك. كلمات عبدالرحمن الراشد قد تصيب الإعلاميين الأكثر إخلاصاً للمهنة والأكثر تصديقاً لما تعلموه فى معاهد وكليات الإعلام عن الحياد الإعلامى بالإحباط، كما أنها قد تبهج الإعلاميين الذين أوغلوا فى التعامل مع أدواتهم الإعلامية كمساحات مخصصة للتعبير عن آرائهم الخاصة، مبررين ذلك بحجج مشابهة لتلك التى أتى بها الراشد، من نوعية أن أوجه الحقيقة متعددة، وأن من لا رأى له هو مجرد إمعة. إذا كان تقديم الحقيقة المجردة أمراً مستحيلاً فلماذا يسعى الناس لمتابعة الإعلام؟ هل يسعى الناس وراء الرأى ولا يهتمون كثيراً للحقيقة؟ هل قراءة كاتب معين أو متابعة قناة تليفزيونية معينة تشبه التصويت فى الانتخابات؟ فكما يختار الناخبون المرشح الأكثر تعبيراً عنهم، فإنهم يتابعون القناة التليفزيونية أو الصحيفة التى تعبر عنهم أكثر من غيرها، كما لو كان قرارهم بالقراءة أو المشاهدة هو قراراً بالتصويت لصالح الآراء التى يتم التعبير عنها فى هذه الوسيلة الإعلامية، وإذا كانت الأمور كذلك، فما المكون المهنى فى الإعلام؟ وهل الإعلامى الناجح هو مثل السياسى الناجح يجيد التعبير عن رأيه وحشد الناس وراءه؟ وإذا كان الإعلامى مثله مثل السياسى فى هذه الناحية على الأقل، فلماذا يتم تقييم الإعلاميين وفقاً لقواعد ومعايير مختلفة عن تلك المستخدمة فى تقييم السياسيين؟ وبأى منطق يضع الإعلاميون أنفسهم فى موقع الحكم على السياسيين مع أن الفريقين ينتميان تقريباً لنفس الفئة؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ليست بالأمر الهين، ولكن بعض المبادئ يمكن أن تفيد فى تحرير الجدل والخلاف حول هذه القضية. أول هذه المبادئ هو أن القول باستحالة تقديم الحقيقة المجردة عن الرأى لا يعنى أن الحقيقة يمكن اختزالها فى الرأى الذى يعبر عنه الإعلاميون، فبين الموقفين المتطرفين هناك مساحة وسطى واسعة جداً يختلط فيها الرأى بالحقيقة دون أن يقتصر على أيهما، وهذه هى المساحة التى يشغلها الإعلام، وخروج الإعلام عن نطاق هذه المساحة فى هذا الاتجاه أو ذاك هو خروج عن نطاق المهنة الإعلامية كلها. المبدأ الثانى: فى هذه المساحة الواسعة بين الحقيقة المجردة والرأى الشخصى يوجد الإعلام المهنى، أما الإعلام الأرقى مهنياً فإنه ذلك الذى يقترب أكثر من تقديم الحقيقة المجردة منه إلى تقديم الرأى الشخصى. فتقديم الحقيقة أو جزء منها هو شرط الفوز بالصفة الإعلامية، وبالتأكيد فإن الكذب أو الخبر العارى من الصحة ليس إعلاماً، يستحق المتورطون بارتكابه الطرد من صفوف المهنة. المبدأ الثالث: الإعلام المهنى يستخدم أدوات المهنة للتعبير عن الرأى الشخصى، دون الحاجة إلى -أو على الأقل دون الإفراط فى- التعبيرات الصريحة المباشرة، ناهيك عن الشتائم والبذاءات التى يجب لها أن تختفى من وسائل التعبير العام نهائياً. فأدوات الإعلام هى الأخبار والصور الحقيقية: اختيارها وترتيبها وطريقة عرضها وتقديمها، والإعلام المهنى هو الذى يستخدم هذه الوسائل للتعبير عن الآراء الشخصية. المبدأ الرابع: تقديم الحقيقة المجردة ذات الأوجه المتعددة هو أمر مستحيل على الوسيلة الإعلامية الواحدة، ولكنه ليس مستحيلاً على وسائل الإعلام مجتمعة، فالتعددية الإعلامية هى الطريقة الوحيدة لحل معادلة الحقيقة المجردة والرأى الشخصى صعبة الحل. ولهذا يجب أن يحمى المجتمع التعددية الإعلامية، ولهذا أيضاً يجب أن يتضامن الإعلاميون لحماية حريات بعضهم، فوجود «الآخر» الإعلامى هو الشرط الرئيسى لوجود الذات الإعلامية. الطرف الثانى لمعادلة الإعلام هو الجمهور، وأظن أن المستهلك الرشيد يدفع ماله ووقته للوسيلة الإعلامية، أولاً لمعرفة الحقيقة، وثانياً للاطلاع على رأى قريب من الرأى الذى يفضله. فالقراء الذين يشترون صحفاً تتبنى آراء مخالفة لهم قليلون، ومثلهم القراء الذين يواصلون شراء جريدة تمعن فى تجاهل الحقيقة أو تلوينها وفقاً لرأى القائمين عليها. فالقارئ يريد أن يرى الحقيقة كاملة، ويريد أيضاً أن يرى تفسيراً وتحليلاً لها ورأياً فيها ينسجم مع ما يظنه صحيحاً.. وهذه هى معادلة الإعلام المهنى.