المدن الجديدة حب يبدأ من النظرة الأولى أو حب ينتهى حتى قبل النظرة الأولى! الاحتمال الثانى هو حالى مع مدينتى إنسبروك النمساوية والعين الإماراتية، والاحتمال الأول كان حالى مع نيس الفرنسية وكانتون تيسينو السويسرية.. أمّا مع مدن مصر التى أنتمى إليها ومع مدن إيطاليا التى هاجرت إليها فلم أفكر فى الاحتمالات ولم أصنّف مشاعرى تجاهها.. ربما لأننى لم أختر أياً من الدولتين! نحن لا نختار أوطاننا وأحياناً أيضاً لا نختار البلاد التى نهاجر إليها.. نحن مرغمون على الميلاد وعلى الموت وعلى الحب وعلى الاغتراب فى الداخل والخارج! فى نيس كانت المرة الأولى التى أصافح فيها فرنسا وللمرة الأولى فى حياتى تألف روحى بحراً غير البحر الأحمر وشطاً غير شط قناة السويس الذى وُلدت ونشأت فى رحابه على مدى ثمانية عشر عاماً قبل أن أهاجر إلى إيطاليا، بدأت جولتى بالقرب من مدينة «كان» حيث يقام مهرجان «كان السينمائى» الشهير. كنت أتأمل كل شىء حولى بفرحة وبدهشة بالغتين، حتى إننى قلت فى أعماقى «إذا كان هذا هو الجنوب وهؤلاء هم «صعايدة فرنسا» فكيف هو الشمال؟ وكيف هم أهله؟! وانتهت جولتى الأولى بالجلوس على الشاطئ القريب لفندق المريديان بمدينة نيس، قوارب متفرقة كأنها كائنات هاربة من مصير ينتظرها عند شواطئ كلها مفتوحة بالمجان! الأغرب من ذلك، الرجل الفقير النائم على الرمال فى إحدى زوايا الشاطئ.. ملابسه مُهلهلة وقد اتخذ من حقيبته الصغيرة وسادة يريح رأسه عليها، ومن معطفه غطاء يحتمى به من رذاذ البحر المتناثر ومن قسوة نظرات الناس إليه وهو «مُكوّم» هكذا فوق الرمال. ما الذى جاء به إلى هنا؟ كيف يجتمع كل هذا الفقر المُدقع المُتمثل فى الرجل المشرّد مع كل هذا الثراء الفاحش المُتمثل فى نيس وبناياتها الفخمة وروادها من السيّاح؟! سبحان الله، حتى فى فرنسا هناك تناقض؟ نعم، حتى فى فرنسا أيها الفقير السارح فى الملكوت. المشهد مُتناقض ومؤلم، خاصة أنه يذكّرنى ببعض المناطق فى القاهرة.. القاهرة مدينة السفارات والفنادق هى نفسها مدينة العشوائيات والمُعدمين!