رغم أن لكل دين ثوابته، قبلها مَن اعتنقه وتنحى عنها غير مريده، إلا أن كثيرًا من الشعوب العربية على وجه التحديد تفرض هذه النزعة الدينية "الثابتة" على كل مناحي وجودها على هذه الأرض، ويحل التقديس سمة أساسية على كل مَن تغلغل داخل قلوبهم، "الشك" مصطلح سيء السُمعة في مجتمعاتنا، حتى يُرجم مرتكبه بكل ما أوتي "الثابتون" من قوة، على الرغم من أن الأصل في الأشياء تدبرها. النظريات العلمية في مجالي العلوم والرياضة رائدة الشك في مُسلَّمات دراستها، يلحقها "النقد الأدبي" الذي قد يؤول إلى ما يغاير الموروث، للحالة الثانية خضع الشاعر "جبران خليل جبران" للدراسة، فكان هدف "أحمد إسماعيل عبدالرحمن" دراسة شعر جبران "العروضي والنثري دراسة أسلوبية" لتقديمها في رسالة "الماجستير" الخاصة به، والتي حصل عليها في 20 يوليو 2014، واتباعًا لمنهج الأديب "محمود شاكر"، "قبل تطبيق المنهج تطبق ما قبل المنهج، من خلال التحقق من صحة نسب هذه النصوص لهذا الشاعر" وهو ما طبقه في كتاب "المتنبي"، اهتدى خريج كلية دار العلوم جامعة الفيوم دفعة 2006، أن يحذوا هذا الحذو، مثلما أوضح في حواره مع "الوطن". "للصدف أحكام"، حيث بدأ يعمل "أحمد" على هذه الرسالة وبعد قضاء سنة كاملة في جمع شعر "جبران" لإنهاء رسالته احترق "الهارد" الخاص بجهاز الكمبيوتر وضاع ما انتهى منه، لكن "رُبَّ ضارة نافعة"، أعدَّ العُدّة من جديد وجمع الأعمال الكاملة لشعر جبران من 5 دور نشر مختلفة، وبعد قراءته الثانية والثالثة لشعر جبران وجد قصائد لا تتفق مع سمات الشاعر وأخرى قيلت في أماكن هو لم يزرها من الأساس، وأخرى موجودة في مجلد عن دار لا يجدها في الأعمال الكاملة لنفس الشاعر في دار أخرى، حتى وجد قصيدة مطلعها "عاش فاروق مصر فخر الشباب وملاذ الأخلاق والآداب .. كل علم وكل فن له منه التفات عالٍ وفضل راب" موجودة في طبعة "دار فاروس" صفحة 209، ولاحظ بأن جميع السير الذاتية التي تحدثت عن جبران لم تُر إلى مجيئه لمصر وأن أغراض الشعر القديم مثل "المدح والهجاء والرثاء" لم تكن تستهويه بل رفضها، وأنه لم يمدح أحدًا في حياته، وكان شعره يُعرف بأنه "رومانسي ذاتي" معبرًا عن نفسه في المقام الأول، فوجد أن النص يقول شيئا والسير الذاتية تقول شيئًا مغايرًا. والملحوظة الثانية التي غيّرت مجرى بحث "أحمد إسماعيل" وفقًا لروايته، قصيدة مطلعها "قبس بدا من جانب الصحراء .. هل عاد عهد الوحي في سيناء؟"، وكانت مدحًا في أمير الشعراء أحمد شوقي، ولاحظ نفس الأولى بأن جبران لم يمدح أحدا ولم يجئ لمصر، فمن هنا تعامل مع الأعمال الكاملة من دور النشر المختلفة على أنها لشاعر مجهول الهوية وأخذ يبحث عن صاحب هذه الأبيات، حتى وجد أن هذه القصيدة للشاعر "خليل مطران" وكانت تحت عنوان "مبايعة شوقي"، وقيل في ديوان "الخليل" طبعة "دارالجيل" بأنها أنشدت في المهرجان الذي أقيم في دار الأوبرا الملكية تكريما له في عام 1927، في إشارة إلى تعيين الحكومة شوقي عضوًا في مجلس الشيوخ عن دائرة سيناء، وفي الأعمال الكاملة لجبران طبعة "دار فاروس" وُجدت القصيدة ذاتها. بعد بحث طالب "دار علوم الفيوم" في مجلدات الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران عبر مطابع دور النشر "فاروس، الصفا، الأندلس، الخلود، الجيل" وموقع الموسوعة العالمية للشعر "أدب"، وجد اختلافًا بين كل الطبعات، حتى وجد قصيدة لمطران خليل قالها في رثاء "جبران" اسمها "صرعة المفكر" أنشدت في حفل وطني جامع ببيروت لنقل جثمان المتفنن الكبير جبران خليل جبران إلى الضريح القومي الذي شيد له في بشري مسقط رأسه، أولها "الجديدان حرب كل جديد.. هذه صرعة العتي المريد"، موجودة بالنص في موجودة في موقع "أدب" والأعمال الكاملة المنشورة المنسوبة لجبران. منذ بدأ "أحمد" بحثه في 2011 حتى انتهى إليه في 2014 وجد أن شعر جبران "العروضي" الساري على تفعيلات الخليل بن أحمد 556 بيتا، إلى جانب شعره المنثور والشعر الإنجليزي غير الموجود بهذه الأعمال، من أصل 1148 قصيدة المنشورة في دار فاروس والصفا، والتي يعد "خليل مطران" هو صاحبها الحقيقي وليس جبران. أشار "صاحب رسالة الماجستير" إلى أن طبعة "دار الجيل بيروت تحقيق أنطوان القوال" لشعر الجبران "الأصغر حجمًا بين طبعات الدور الأخرى والأصح قدر الإمكان إلا أن بها أخطاء أيضًا منها، قصيدة تحمل اسم "طرب الفؤاد" مطلعها: طرب الفؤاد وعاودت أحزانه.. وتشعبت شعبا به أشجانه"، وبالبحث، أوضح أحمد بأنها ليست لجبران وإنما لشاعر اسمه "محمد بن صالح العلمي" من شعراء العصر العباسي في القرن الرابع الهجري، وأنها منشورة في ديوانه الموجود في كتاب العراق وموجودة أيضًا بكتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني وفي أكثر من مصدر ومرجع آخر. إلى جانب قصيدة أخرى بنفس الطبعة مطلعها "قل لإخواني رأوني ميتا.. فبكوني ورثوني حزنا"، اعتمد المحقق في نسبها لجبران على كتاب "جبران حيا وميتا" لمشيل خوري ووضعها مكونة من بيتين فقط، حتى أشار الباحث بأنها لشاعر اسمه علي بن خليل المسفر السبتي وأنها مكونة من 6 أبيات، وأنها نُسبت خطأ أيضًا للغزالي في كتاب "إحياء علوم الدين". أسس "أحمد إسماعيل" رسالة الماجستير التي حصل فيها على تقدير ممتاز من كلية الآداب جامعة طنطا، بناء على ال556 بيتا التي تأكد من صحة نسبها للشاعر الكبير جبران خليل جبران السارية على تفعيلات الخليل بن أحمد، إلى جانب شعره المنثور غير الموجود بهذه الطبعات، مشيرًا إلى كارثة أن تداول مجلدات في السوق العربية على أنها لجبران خليل جبران، وفي صحة الأمر ليست له، موضحًا أن معظم هذه الطبعات معتمدة على الموقع الإلكتروني "الموسوعة العالمية للشعر العربي (أدب)"، الذي ثبت نسبه لجبران أشعار ليست له ويعود معظمها إلى ابن بلدته "خليل مطران"، مرجحًا أن ذلك ربما يعود إلى "تشابه أسماء" الشاعرين الكبيرين.