أثارت الفكرة التى أطلقتها فى المقال المنشور، الأسبوع الماضى، فى هذه الصفحة ردود فعل أشكر أصحابها على ما أتاحوه من فرصة لشرح الفكرة وتطويرها. «إشمعنا» الحقوق والتربية والإعلام؟ هذه هى أهم الحجج التى يثيرها المعترضون، وهى أشهر وأضعف حجة تثار فى وجه دعوات الإصلاح. تطلب من أحدهم دفع الضرائب المستحقة عليه، فيرد عليك «إشمعنا»، فالآخرون لا يدفعون. أو تحاول إزالة مبنى أقيم على أرض زراعية، فيرد عليك المخالف «كل الناس بتعمل كده». أو تطالب بإصلاح بعض الكليات الجامعية، فيرد عليك أحد الأساتذة، «إشمعنا»، «ما هو كل الكليات مليئة بالمشاكل». التهرب من مناقشة مشكلة محددة بالإشارة إلى مشكلات وحالات أخرى هو إحدى الحيل المحببة لخصوم الإصلاح. أصحاب هذه الحجة يتهربون من مناقشة قضية الجدوى والكفاءة بإثارة قضية المساواة، فيتحول ارتكاب الخطأ على أيديهم إلى حق ومظهر من مظاهر العدالة طالما أن آخرين يفعلون الشىء نفسه. رفع راية «إشمعنا» فى مواجهة المطالبة بالإصلاح يحول الإصلاح إلى نوع من العقاب بدلاً من أن يكون دليلاً على الاهتمام وترتيب الأولويات. صحيح أن كل نظام التعليم عندنا يحتاج إلى إصلاح، وأن كل المهن تشهد تراجعاً فى مستويات الأداء، ينطبق هذا على خريجى الجامعات من الأطباء والمهندسين والمحاسبين، كما ينطبق على من لم يقتربوا من الجامعة وأبوابها من سباكين ونجارين وسائقين. لكن أى محاولة للإصلاح لا بد أن تبدأ من نقطة نتصورها أكثر أهمية من غيرها، وفى اقتراح البدء بإصلاح كليات الحقوق والتربية والإعلام تقدير شديد لأهمية الدور الذى يلعبه خريجو هذه الكليات، وليس فيه انتقاص من قدرهم كما يحاول المحرضون ضد الإصلاح الإيحاء. فالطبيب قد يخطئ فيقتل روحاً، والمهندس قد يخطئ فيفسد ماكينة أو يتسبب فى سقوط مبنى، لكن أخطاء أهل القانون والتربية والإعلام تشيع الفساد فى المجتمع كله الآن ولأجيال مقبلة. إلغاء كليات الحقوق والتربية والإعلام ليس جوهر الفكرة التى اقترحتها، أما دعوة الإلغاء التى وردت فى عنوان المقال فإنها جاءت فقط لشد انتباه قراء اعتادوا الاكتفاء من المقال بعنوانه، وقد تحقق الغرض. أما جوهر الفكرة التى يتهرب خصوم الإصلاح من مناقشتها، فهو تحويل الكليات الثلاث إلى معاهد للدراسات العليا، تمنح درجات علمية تبدأ من الدبلوم الجامعى حتى درجة الدكتوراه، والغرض من الاقتراح هو الارتقاء بمستوى التكوين المهنى لأصحاب هذه المهن شديدة الأهمية. القانون هو الأداة التى تنظم العلاقة بين كل أطراف المجتمع، بدءاً من علاقة الزوج بزوجته، وانتهاء بعلاقة الحاكم والمحكوم، وإصلاح كليات الحقوق -فى نظرى- هو إحدى أدوات الإصلاح السياسى والقانونى. تاريخياً كانت كلية الحقوق أحد الأصول الرئيسية لنظام التعليم الجامعى المصرى كله. فى البداية كانت هناك مدرسة الإدارة واللغات التى أنشأها الخديو إسماعيل، والتى تطورت حتى أصبحت كلية الحقوق الراهنة. تدريس الإدارة واللغات والقانون فى مؤسسة تعليمية واحدة عكس الرؤية الإصلاحية للرواد الأوائل من مؤسسى مصر الحديثة، وهى الرؤية التى حولت كلية الحقوق إلى مصنع لإنتاج قادة السياسة والرأى والإدارة والتنوير فى عهد النهضة المصرية الرائع، وأظن أن تراجع دور العاملين بالقانون وتراجع التكوين العلمى والمهنى لخريجى الحقوق هو أحد أسباب التدهور الذى أصاب جوانب كثيرة فى الدولة والمجتمع. فالقانون أكثر أهمية بكثير من أن نضع مصيره فى يد شباب صغار السن لا يمتلكون من المعارف سوى ما حفظوه من مذكرات وملخصات فى الأسابيع القليلة السابقة على الامتحان. لقد تراجع أداء كليات الحقوق بسبب تلك الأعداد الكبيرة من الطلاب الذين لا يلتحق أغلبهم بها، إلا لأن هذا هو المصير الذى اختاره لهم مكتب التنسيق. ومع الأعداد الكبيرة من الطلاب فاقدى الحماس يتم إهدار الجوانب الفلسفية والتاريخية والسياسية للقانون الذى يتم اختزاله إلى مواد صماء وحيل قانونية. الإصلاح الذى أدعو له يقوم على تحويل كليات الحقوق إلى معاهد للدراسات العليا تقبل الطلاب من خريجى كليات ذات صلة، كالآداب والسياسة والاقتصاد والشريعة، ليدرسوا القانون لمدة قد تقل قليلاً عن الأربع سنوات اللازمة للحصول على ليسانس الحقوق، ليحصلوا بعدها على درجة تعادل درجة الماجستير، على أن تواصل كليات الحقوق منح درجة الدكتوراه لمن لديه الشغف والقدرة على تطوير علوم ونظريات القانون. مجال القانون -رغم هذا- أفضل حالاً من مجالى التربية والإعلام، فممارسة القانون تقتصر على خريجى كليات الحقوق، وهو ما لا يحدث فى مجالى التربية والإعلام، حيث يمكن لأى خريج جامعى العمل بهذه المجالات، فيما يدل على أن خريجى كليات التربية والإعلام لا يمتلكون من المعارف والمهارات ما يميزهم عن أقرانهم من خريجى كليات جامعية أخرى، بل إن بعضاً من هؤلاء قد يكون لديه ما يميزه. فالمدرس خريج كليات العلوم والآداب هو على الأرجح أكثر إلماماً بمادته العلمية من زميله خريج التربية، وإن كانت تنقصه المعرفة بأساليب التدريس والتربية. والإعلامى خريج السياسة والاقتصاد والزراعة والآداب لديه من المعارف المتخصصة ما يزيد على خريج الإعلام، وإن كانت تنقصه المعرفة بأصول الكتابة الصحفية وقوالب تقديم المادة الإعلامية. وجوهر ما أقترحه هو تحويل كليات التربية والإعلام إلى معاهد للدراسات العليا تتخصص فى تأهيل خريجى كليات أخرى لممارسة مهنتى التدريس والإعلام بعد حصولهم على دبلوم متخصص، بالإضافة إلى التدريس لطلاب الماجستير والدكتوراه لإنتاج بحوث ورسائل جامعية حقيقية تطور أساليب ونظريات التدريس والتربية والاتصال. هذه فكرة تخدم المجتمع كله، ولا يتضرر منها سوى المستفيدين من وضع قائم بات صعب الاحتمال.