(نصف الذين كفروا بالله يتحمل وزرهم دعاة بغضوا الدين إلى الناس بسوء صنيعهم)، مازلت هذه الكلمة التي قالها الشيخ محمد الغزالي تعبر عن واقع مأزومية الخطاب الديني، وعن الخلل الموجود في هذا الخطاب، الذي يقدمه البعض بصورة بشعة منفرة متشددة، من هذا المنطلق قدم الداعية الإسلامي الباحث الشيخ أحمد ربيع الأزهري "روشتة" لميثاق شرف دعوي، ليزيل بعض ما لصق بالخطاب الديني من عوج، وأهمية ما قدمه الشيخ تأتي من منطلق عمله كإمام وخطيب، واطلاعه الواسع، وعضويته في مكتب رسالة الأزهر، ما أعطاه منهجية فيما كتبه، ومع ما تعيشه مصر من واقع مأزوم، ومع حالة الاستقطاب الحاد في المجتمع، يأتي دور الخطاب الديني الوسطي ليشارك في تحويل المحن إلى منح، والألم إلى أمل، ويبرز للأمة طرحا مستنيرا واعيا، وينقلها من الضيق والاضطرار إلى السعة والاختيار، لأن القائم على الخطاب الديني يؤدي وظيفة سبقه إليها النبيون، وأنجح الناس في تبليغ الدعوة هو من تظهر وراثة النبوة في خلقه وسلوكه وعرضه لدين الله. خصصت مقال هذا الأسبوع لنشر خلاصة هذا العمل من الباحث، وأرى من واجبي القيام بنشر أي فكرة جادة خاصة في مجال علم الاجتماع الديني، كما أتمنى أن يصل ما قاله الباحث إلى القائمين على شأن الدعوة عموما ووزارة الأوقاف خصوصا، ويستفيدوا منها، ويا ليت وزارة الأوقاف تهتم في برامج التدريب بمثل هذا العمل الذي يبني الداعية المنهجي الوسطي، وعندها لن تحدد له وقتا أو خطبة لأنه أصبح بصير نفسه. واختصر ما ذكره الشيخ الباحث في النقاط التالية: 1- أن يستن الداعية بالنفس المحمدي الرحيم في الهداية والتبليغ عن الله ورسوله، مقتديا بمنهج (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وليعلم "إن الدعوة لم يستخدم في تنفيذ مناهجها عنفا أو إكراها، بل كانت سهلة رخاء متفائلة سمحة هينة لينة، وسوف لا يجد أحد من الباحثين في تاريخ العمل الإسلامي سوى هذه الحقيقة: "تألفوا الناس وتأنوا بهم". 2- أن يعلي الداعية من مقاصد الشريعة، والتي تحفظ على الناس كرامتهم وأمنهم وأموالهم وأعراضهم، وقبل ذلك دينهم ونفوسهم. فيجب على الدعاة أولًا: أن يدركوا مقاصد شريعتهم إدراكا تاما، وينقل الشيخ ربيع عن الشيخ أسامة الأزهري قوله "فإن فهمه لدين الله تعالى في هذه الحالة يَتسعُ، ونظرة في الفروع الفقهية والمسائل الجزئية يستنير، ويخرج من التشنج والغلظة، ويعلم الجاهل والمخالف برفق، ويتخلق بالخلق النبوي العظيم"، ثم يجب عليهم ثانيا: أن يذكروا الناس بحرمة تفويت هذه المقاصد والاعتداء على حرمتها، وكما يقول الإمام الأكبر سيد طنطاوي رحمه الله: "إن شريعة الإسلام تنظر إلى الإنسان على أنه بناء بناه الله – تعالى – وأوجده بقدرته، فلا يجوز لأحد أن يهدمه إلا بالحق، واعتبرت قتل نفس واحدة ظلما وعدوانا كأنه قتل للإنسانية جمعاء". 3- تنزيل القرآن التنزيل الصحيح، وعدم الاجتراء على تفسير القرآن بغير وجه حق، وما انتشر الشقاق والانقسام والصراع إلا عندما يتم لي الآيات لتتوافق مع الأهواء والميول دون قواعد ضابطة لفهم النص، وحدث تضيع لثوابت الدين بهذا الفهم العقيم. 4- يجب أن يغوص خطابنا الديني الآن في الهدي النبوي من خلال سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم - ليخرج للأمة بفقه السيرة حلولا تصلح لواقعنا المأزوم. 5- عدم الاجتراء على مقام الفتوى بغير وجه حق، لأن الإفتاء نوع من الاجتهاد، ولكنه أدق لأنه فيه تحمل مسؤولية تحديد الحكم لمسألة معينة بذاتها. وينقل الأستاذ أحمد ربيع قول العلماء من أن عمل المفتي دائر بين ثلاث مسائل: (أ) ألا يختار قولا متهافتا في دليله. (ب) أن يكون حسن القصد في كل ما يختاره. (ج) أن يكون في فتواه مصلحا لحال المسلمين وشؤون دينهم. ولهذا ألزموه: (أ) بأن يردف القول بدليله. (ب) وألا يتخير المذهب الأضعف. (ج) وألا يخرج عن المجمع عليه. (د) وألا يتبع هوى الناس. 6- أن يحذر من الشقاق والتنازع والتفرق والتعصب، يقول الإمام محمد أبوزهرة: "إنه ثبت نفسيا أن التعصب لدين من الأديان ليس منشؤه قوة الإيمان به، إنما منشؤه ضعف في النفوس، ولا شك أنه إذا لانت القلوب بعد عصبيتها، تركت الانحياز إلى الائتلاف، والابتعاد إلى الاقتراب". 7- أن نجعل التيسير على الخلق وفتح طاقات من نور للناس تسعد قلوبهم وتزيل هموهم مسلكا دعويا، مصداقا لقول رسول الله "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا ولا تنفروا". 8- أن يدعو إلى حفظ الأمة ووحدتها، والذي عده العلماء من المقاصد السامية للشريعة الإسلامية. 9- يجب أن يبرز خطابنا الديني (دوائر الانتماء)، حيثُ إنه لا تعارض بين الانتماء للدين والانتماء الوطن، ومصر في هذه اللحظة الفارقة من تاريخها في أشد الحاجة للتذكير بمحبتها والعمل على حمايتها وصيانتها، فالإنسان بلا وطن شيء صغير تافه ضائع، ولكنه بالوطن شيء كبير قيم مذكور". 10- يكف خطابنا الديني عن تهم التكفير والتفسيق والتخوين، فلا سب ولا لعن ولا تفسيق، ولا تكفير، ولا إبطال لمذهب الآخرين ممن له أصل في الدين. 11- يدعو الداعية إلى تذكير الكل بالكل، وأن نجاة الفرد في نجاة الكل، ونجاة الكل في نجاة الفرد. 12- أن يحذر من خطورة إشعال الفتنة الطائفية، ويبرز المنهج الإسلامي في الرحمة والتسامح، والمشاركة مع غير المسلمين في بناء المجتمع، ويحارب الشائعات، ويدعو إلى التثبت، وكما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ". 13- يجب أن يدور خطابنا الدعوي في فلك الحق وجودا وعدما، وليعلم أن من خصائص الحق التفرقة بين الرجال والحق، حيثُ يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال: لأن عدم التفريق بينهما يؤدي إلى نوع من "الصنمية". 14- يجب أن يتحول خطابنا الديني لصانعة الأمل في الأمة، وينشر ثقافة الحب في المجتمع، لأن زراعة الكراهية لن نجني منها غير الشوك. 15- يجب أن يلتفت الخطاب الديني إلى ملامسة الشرائح الفقيرة والمعدومة، فيدعو إلى التكافل الاجتماعي، ويحث على التصدق والجود والكفالة. 16- أن نؤسس لقيمة "المحاسبة" كمدخل لقيم سبع يحتاجها المجتمع الآن هي (المصالحة) المبنية على قيمة (المصارحة) والتي تثمر (المسامحة) وتتجلى عمليا في (المناصحة) بين كل طوائف المجتمع، فنصل إلى (المصافحة) وليس معنى المصافحة تلاقى الأيدي، بل المقصود أن تتشابك كل مكونات الدولة، وبعد ذلك تأتي القيمة السادسة وهي (المناصرة)، وتحقيق كل هذا يتطلب (المصابرة). 17- يجب أن ينطلق خطابنا من المدخل القيمي. 18- أن يحذر من الاجتراء على القامات والعلماء، حتى لو اختلفنا معهم، وكذلك التحذير من تصفية الحسابات والمكائد. 19- أن يتسم بالوعي الكامل لما يطرحه، وأن يتحلى بالمعرفة والإدراك، ويدرك المآلات، للحكم على الحال بشكل سليم. 20- أن يبتعد عن التصرفات الانفعالية، ويجعل التأمل قبل التذمر، والفكر قرين الذكر، حتى لا يصدم الأمة باختلال تصرفاته نتيجة لعدم استقامة الفهم من ناحية ولانفعاله وتهوره خاصة في لحظات المحن والشدائد من ناحية أخرى. ويختم العالم الفاضل بأهم تلك الركائز، وهي التأكيد على الحفاظ على الأزهر الشريف ومنهجه، كمرجعية كبرى، تعبر عن ضمير الأمة، والأزهر المقصود ليس الحوائط والجدران، بل المنهج المنضبط في صناعة العقول، وعمارة الأكوان والمعبر عن وسطية الإسلام، والذي يقبل الحوار والاختلاف والتنوع، ويحافظ على الثوابت ويتمسك بالهوية.