نحن نحتاج إلى معجزة للخروج من دائرة الأزمات الاقتصادية اللعينة التى لحقت بنا نتيجة الفساد، ونتيجة الإهمال، ونتيجة ثقافة الأخذ بلا عطاء، ونتيجة سوء التخطيط، ونتيجة ثقافة أهل الثقة لا أهل الكفاءة، طوال عقود متلاحقة من الرعونة والتراخى. والاحتياج إلى معجزة، ليس معناه انتظار الفرج، أو انتظار مخلِّص يملك قوى خارقة، أو انتظار أن تمطر السماء ذهباً. المعجزة التى نحتاجها هى معجزة بشرية تأخذ بأسباب التنمية (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً) (الكهف: 84 -85). وأتصور أن طريق القضاء على مثلث الرعب الإدارى: البيروقراطية التقليدية، والفساد، والعقم الإدارى، يكمن فى الانتقال إلى «مؤسسات الجيل الثالث». وهذا الانتقال غير ممكن بدون تغيير الناس، وتطبيق الحوكمة Governance. وتقوم الحوكمة على مجموعة من السياسات الإدارية المترابطة والعمليات المتناسقة التى تحسن من الأداء التشغيلى العام، وتحد من الإهمال والكسل والحيل الفاسدة والمراوغة والممارسات الاحتيالية، وتؤدى إلى كفاءة أعلى فى المنظومة المؤسسية ومستويات رِبْحَيَّة أفضل. ويشير مصطلح الحوكمة إلى «أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة»؛ بناء على تعريف مؤسسات دولية مثل «برنامج الأممالمتحدة الإنمائى UNDP»، و«منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD»، و«لجنة بازل للرقابة المصرفية العالمية Basel Committee». وترتبط الحوكمة بالممارسة الدينامية المتحركة ليس فقط للسياسات العامة فى الإدارة أو أنظمة الحكم، بل أيضاً بالقرارات التى تمنح ترقية أو تقوم بالتعيين أو تعطى سلطات أو تتحقق من الأداء. وتتكون إما من عملية منفصلة أو مجموعة متكاملة من العمليات الإدارية. وبمعنى آخر، فإن الحوكمة تعنى تطبيق النظام، أى تفعيل نظام يحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية التى تؤثر فى الأداء، وتحديد المسئول والمسئولية، كما تشمل مقومات تقوية المؤسسة على المدى القريب والمتوسط والبعيد. إن تطبيق معايير الحوكمة المشتركة بين «برنامج الأممالمتحدة الإنمائى»، و«منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية»، و«لجنة بازل للرقابة المصرفية العالمية»، كفيل بإحداث تغيير جذرى فى نظمنا الإدارية البالية. ومن أهم هذه المعايير: 1- الشفافية. 2- الرقابة المتبادلة. 3- المساءلة. 4- التوزيع الدقيق للمسئوليات. 5- مراعاة تناسب السلطات مع المسئوليات. 6- تحديد مراكز اتخاذ القرار متضمناً تسلسلاً وظيفياً للموافقات المطلوبة. 7- وضع آلية للتعاون الفعال بين رئيس مجلس الإدارة والمدير والموظفين ومدققى الحسابات. 8- توفير نظام ضبط داخلى قوى يتضمن مهام التدقيق الداخلى والخارجى. 9- وضع نظام للحوافز المعنوية والمالية والإدارية سواء كانت فى شكل مكافآت أو تعويضات أو ترقيات أو عناصر أخرى. 10- إتاحة المعلومات وتدفقها بشكل مناسب داخلياًَ أو على المستوى الخارجى. 11- إعادة هيكلة الأقسام الإدارية. 12- إيجاد مصادر جديدة للتمويل. 13- استغلال الموارد البشرية بفعالية. 14- توظيف جميع عناصر الإنتاج ومفرداته وتسخيرها لتحقيق مستويات ربحية أعلى وطفرة تغيرات نوعية. وربما يتساءل البعض: لماذا لديك كل هذا اليقين بأن الالتزام بتطبيق معايير الحوكمة الدوليَّة سوف يقضى على مثلث الرعب الإدارى؟ الإجابة تكمن فى أن الحوكمة سبق تجربتها وإثبات جدواها فى العديد من الأنظمة الاقتصادية والإدارية الناشئة والمتقدمة خلال السنوات والعقود الماضية، خاصة فى أعقاب التدهور الإدارى والانهيارات الاقتصادية والأزمات المالية الطاحنة؛ لتحسين الأداء ومنع الفساد وتحقيق نتائج أفضل. وقد قام مَنْ أعرفه بتطبيق الحوكمة بعد تطويعها فى إحدى المؤسسات المصرية ذات الطابع الخاص، وكانت اللوائح مرنة بدرجة تسمح بتطبيق نظام الحوكمة، وكانت النتيجة تحقيق نسبة نمو تصل إلى 215% فى ثلاث سنوات من أصعب السنوات التى مرت بها مصر بعد ثورة يناير، على الرغم من زيادة المرتبات والحوافز وأوجه الإنفاق على التطوير المؤسسى والمشروعات المجتمعية غير الربحية وإعادة تجديد البنية التحتية والفوقية وما استلزمته من نفقات. وذلك فى الوقت الذى كانت فيه نسبة النمو العام فى بعض المؤسسات الأخرى لا تتجاوز 1%. وهنا لا بد أن أنبه القارئ إلى أن هذا ليس معناه أن كل مدير يمكنه تطبيق نظام الحوكمة إذا كان يعمل فى مؤسسة تحكمها لوائح بيروقراطية مركزية؛ فالحوكمة والبيروقراطية المركزية لا يمكن أن يلتقيا أبداً! وتطبيق الحوكمة مسألة ليست كلية فى أيدى المديرين، بل لا بد أن تسمح بها السلطة المختصة فى أعلى الهرم الإدارى، كما لا بد أن يسبقها إصلاح تشريعى وتعديل للقوانين واللوائح الجامدة. وسر نجاح الحوكمة يتمثل فى عدة أسباب، هى: 1- تعمل الحَوْكمة بفعالية على رفع كفاءة الأداء المؤسَّسى. 2- تقيس المُخْرَجات من خلال مؤشرات متنوعة، بهدف التحقق من توظيف المعرفة المتجددة وإنتاج قيمة مُضافة للاقتصاد. 3- تقيس مؤشرات الحوكمة العلاقة التبادلية Interdependence من خلال تحقيق التفاعل مع المؤسسات الأخرى فى المجتمع. 4- تقيس انعكاس التغيرات التى تحدث فى المجتمع على مفردات العمل. 5- تتوافق مع التغيرات التى تحدث فى عالم والصناعة والدولة Reflexivity. 6- تبين الحاجة المستمرة لإعادة تقويم الأداء المؤسسى وتطويره لتحقيق مخرجات أفضل. وببساطة فإن الحوكمة تحقق مفهوم المؤسسة الريادية Entrepreneurial، أو «مؤسسة الجيل الثالث»؛ حيث يعتبر نموذج الإدارة بالحوكمة نموذجاً مرناً يقوم على استغلال وتوظيف المعرفة وإنتاج قيمة مُضافة للاقتصاد، وهو أيضاً نموذج يراعى آليات السوق والمتطلبات المهنية للشركات وعمليات الإنتاج، والبرامج المرتبطة بالأعمال.