قبل مائة عام بالضبط اندلعت الحرب العالمية الأولى. دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا، فأصبحت كل أراضى سلطنة بنى عثمان هدفاً للحلفاء من الإنجليز والفرنسيين. سقط ما تبقى من ممتلكات عربية للدولة العثمانية فى يد الإنجليز والفرنسيين، فتم احتلال المشرق العربى كله. وقتها لم توجد هناك دول فى هذه المنطقة وإنما ولايات عثمانية تميزها حدود إدارية غير صارمة يجرى إعادة رسمها بين الحين والآخر. كانت هناك مراكز قوية لولايات مستقرة لها خصائصها وهويتها المميزة، مثل دمشق وحلب والبصرة والموصل وبغداد وبيروت وجبل لبنان، لكن حدود هذه الولايات كانت دائمة التغير لاعتبارات مختلفة. لم تكن الولايات المختلفة موحدة تماماً فى إطار دولة بنى عثمان، فكل منها كانت له ثقافته المميزة ونظامه الإدارى وقوانينه الخاصة فى إطار نظام عثمانى أتاح قدراً من المرونة والتعددية، ولكنها لم تكن مقسمة أيضاً. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كان الغضب ضد الدولة العثمانية آخذاً فى التصاعد بين العرب بسبب محاولات العثمانيين تغيير هذا الوضع عبر فرض المزيد من سلطة الدولة التركية المركزية على ولايات اعتادت قدراً لا بأس به من الاستقلال الذاتى. كان الأتراك يواجهون مأزقاً تاريخياً، فالدول الأوروبية المنافسة لهم أصبحت قوية وقادرة بعد أن أخذت بنظام الدولة الحديثة شديد المركزية. حاول الأتراك إجبار الممالك التابعة لهم على الخضوع لنظام الدولة المركزية الحديثة، فحرموها من استقلالها الذاتى وأشعلوا نار الغضب فيها. كان على الأتراك الاختيار بين التحول إلى دولة مركزية حديثة ليتمكنوا من مجاراة خصومهم الأوروبيين حتى لو أدى ذلك إلى إشاعة الغضب فى الولايات العربية، أو الإبقاء على نظام الإدارة العثمانية المرن وغير المركزى لتتجنب إثارة الغضب العربى حتى لو أدى ذلك إلى إبقاء السلطنة ضعيفة فى وجه خصومها. المعضلة كانت تحتاج إلى حل عبقرى خلاق يحقق الوحدة ويبقى على التعدد والتنوع فى الوقت نفسه، ولكن هذا ما فشل الأتراك فى تطويره. احتل الإنجليز والفرنسيون المنطقة واتفقوا على تقسيمها وفقاً لاتفاق سايكس بيكو الشهير. دخل المشرق العربى الحرب العالمية الأولى وفيه عشر ولايات عثمانية وخرج منها وفيه خمسة كيانات سميت دولاً: العراقوسورياولبنان والأردن وفلسطين. الجراحة الاستعمارية فى المشرق العربى قسمت المنطقة نعم، لكنها وحدته أيضاً. لقد تم تقسيم الوحدة العثمانية المرنة والضعيفة لتحل محلها دول أكثر مركزية وشبهاً بالدول الحديثة موحدة السلطة، وهى الكيانات والدول التى نراها تنهار أمام أعيننا الآن فى العراقوسورياولبنان بعد حوالى مائة عام من إنشائها، فأين هى المشكلة، ولماذا تبدو هذه الدول وقد استنفدت دورة حياتها التاريخية؟ المشهد الراهن فى المشرق العربى يوحى بأن المنطقة التى قسمها الاستعمار تتجه نحو مزيد من التقسيم، كما لو كان المشرق العربى سيخرج من الاضطراب الراهن وفيه عدد من الدول يزيد على عدد الدول التى خلقها الاستعمار فى المنطقة. مخاطر التقسيم الراهنة توحى بأن الاستعمار لم يقسم المنطقة حقيقة، وإنما حاول أن يخلق فيها دولاً أصغر حجماً ظنها قادرة على البقاء أكثر من تلك الوحدة العثمانية الفضفاضة. لكن كان هناك قدر كبير من الاصطناع فى الحدود التى رسمها الاستعمار، كما كان هناك قدر كبير من التحكمية فى الدول التى خلقها. كانت حلب جغرافياً واقتصادياً أقرب للموصل التى أصبحت عراقية منها لدمشق التى أصبحت عاصمة للدولة السورية. طرابلساللبنانية كانت أكثر قرباً لدمشق منها لبيروت التى باتت عاصمة لدولة لبنان المكبرة. الجيوب الطائفية العلوية والمارونية والشيعية كانت مستعصية على الدمج فى أى وحدة أكبر. أطماع الاستعمار جعلت «سايكس بيكو» اتفاقاً لاقتسام الغنائم وليس مشروعاً جدياً لإنشاء نظام إقليمى قابل للبقاء. استقلت بلاد المشرق العربى منذ أكثر من سبعين عاماً، وتولت النخب الوطنية المسئولية عن هذه الكيانات بكل ما لها وما عليها. الحروب الأهلية الجارية فى سورياوالعراق وتلك الحرب الأهلية التى تخيم على لبنان طوال الوقت هى شهادة فشل النخب العربية فى إدارة هذه البلاد. هناك عيب خلقى فى هذه الدول سببه التدخل الاستعمارى الغشيم، وهناك عيب سياسى وفكرى منع النخب الحاكمة من احتواء عيوب التأسيس المصطنع. المسئولية عما نشهده الآن فى المشرق العربى موزعة بين عثمانيين فشلوا فى المزاوجة بين الوحدة والتعدد فى إطار إمبراطورية بنى عثمان، واستعمار أوروبى اصطنع حقائق سياسية غير قابلة للديمومة، ونخب وطنية حكمت ففاقمت المشاكل حتى بات المشرق العربى يتجه نحو مزيد من التقسيم لتقوم فيه دول وإمارات طائفية وعرقية صغيرة كردية وعلوية وشيعية وسنية وداعشية. السؤال المطلوب الإجابة عنه الآن هو نفس السؤال الذى كان مطلوباً الإجابة عنه منذ زمن العثمانيين. إنه سؤال الوحدة والتنوع: كيف يمكن تحقيق الوحدة مع احترام التنوع الثقافى والدينى والمذهبى والعرقى الموجود واقعياً؟ إنه سؤال السلطة المركزية والاستقلال الذاتى المحلى: كيف يمكن إنشاء سلطة مركزية قوية بما يكفى لقيام دولة حديثة فى نفس الوقت الذى يتم فيه ضمان قدر كافٍ من الاستقلال الذاتى للأقاليم تحفظ لها خصوصيتها؟ إنه سؤال السلطة والحرية: كيف يمكن تأسيس سلطة لها من القوة والموارد ما يمكنها من الحكم الفعال وضمان وحدة الكيان فى نفس الوقت الذى يتاح فيه للأفراد والجماعات قدر كافٍ من الحرية يضمن لهم الكرامة وحق الاختيار والحصانة ضد القهر؟ هذه باختصار هى الأسئلة التى قامت عليها الدولة الحديثة، ولن يكون لدينا دول مستقرة قادرة على البقاء ما لم نجب عن هذه الأسئلة بطريقة صحيحة تلائم واقعنا.