ليس دفاعاً عن أحد المحامين، فالناس تفنى والمعانى تبقى، ولكن دفاعاً عن المحاماة التى أساء الناس فهمها، وظنوا السوء بأصحابها، إذ عندما رأوا أحد كبار المحامين يدافع عن شخص يكرهونه، فما كان منهم إلا أن مقتوا المحامى، ولعنوا فى سرائرهم المحاماة، رأى بعضهم أن المحامى مهما كان شرفه فهو لا يتورع عن مهاجمة القيم النبيلة ليحقق مصلحة من رأوه مجرماً، قالوا عن المحامى إنه ذلك الذى يتلاعب بالكلمات، ويبحث عن ثغرات القانون ليساعد المجرم على الإفلات من العقاب، ويا له من ظن بائس يفتقر إلى العدل والحق، هو مثل الظن الذى وقعت فيه مجموعة من جوارى قصر الخديو فى نهايات القرن التاسع عشر عندما تزوجت إحداهن من المحامى النابه العبقرى إبراهيم الهلباوى، فعندما قمن بزيارتها بعد زواجها بكين وأخذن يندبن حظها، فتعجبت العروس وقالت لهن: ولِم ذلك؟ قلن لها: لقد علمنا أن مهنة زوجك هى «احتراف الكذب والتزوير»، فضحكت العروس وأفهمتهن أن المحاماة هى مهنة النبلاء. وحين وقف «الهلباوى» مدعياً عاماً فى قضية دنشواى الشهيرة، كان يترافع بلسان حال الضباط الإنجليز، يشرح مشاعرهم وخوفهم، إذ هجم عليهم الفلاحون فى دنشواى، كانت المحكمة برئاسة بطرس غالى باشا، وكان الرأى العام كله ضد الإنجليز، وأصبح «الهلباوى» بسبب مرافعته هذه عدواً للشعب، حتى إن حافظ إبراهيم كتب فيه شعراً، قال فيه: أنت جلادنا فلا تنسَ أنَّا **** قد لبسنا على يديك الحدادا ولكن «الهلباوى» لم يحفل بالرأى العام، ولا بالهجوم الذى تعرض له، وأنَّى له أن يفعل، وهو أحد الآباء المؤسسين للمحاماة فى مصر فى عهدها الحديث. وبعد سنوات قليلة، وقف «الهلباوى» مترافعاً عن إبراهيم الوردانى الذى اغتال بطرس باشا غالى الذى كان رئيساً لمحكمة دنشواى! وكانت هذه القضية من القضايا التى انحاز فيها الرأى العام للقاتل بحسب أن دوافعه كانت وطنية، فسيطرت الدهشة على المجتمع المصرى، أجلاد دنشواى يترافع عن مصرى فى قضية رأى الجمهور أنها قضية وطنية؟! ولكن من سيطرت عليهم الدهشة لم يعلموا أن المحاماة هى المهنة التى يتماهى فيها المحامى مع شخص موكله، فيكون لسان حاله، وترجمان مشاعره، ولكن إذا كان الناس قد جهلوا هذا، فإن المحامين كانوا يعرفون ويعلمون ويألمون، لذلك حين أُنشئت نقابة المحامين عام 1912 انتخب المحامون بأغلبية ساحقة «الأستاذ» الهلباوى ليكون أول نقيبٍ للمحامين، وكأنهم يضمدون بهذا الموقف جراحه التى سببتها سكاكين الجهل. وحين يقف المحامى ليدافع عن المتهم، فإنه بالبداهة لا يدافع عن الجريمة، ولكنه يدافع عن ذلك الذى نُسبت إليه الجريمة، وهو حين يترافع عن موكله يبدو وكأنه يترافع عن نفسه، وأحياناً لا يستطيع المحامى أن يفصل نفسه أثناء المرافعة عن موكله، ويظهر ذلك جلياً عندما يندمج فى مرافعته، فيقول مثلاً: «إن التهمة التى وجهت إلىَّ تهمة باطلة» وهو يعنى بطبيعة الحال التهمة التى وجهت إلى موكله، هذا الاندماج فى حقيقة الأمر هو ملمح من الملامح الرسالية فى المحاماة، وأظن أن المحاماة فى أمس الحاجة الآن إلى من يترافع عنها ويدافع عن رساليتها، تلك الرسالية التى يظنها الغافلون «صناعة الكذب والتلفيق والتزوير»، ورغم أننى أجدنى أتحدث عن بديهيات، فإنه عندما يسود الجهل تصبح البديهيات منكرة! وكان من المنكرات أن ظن من ادعوا النخبوية والثورية والمفهومية أن من يقف للدفاع عن الرئيس الأسبق مبارك يجب أن ينهال عليه بسوطه ويجلده بألسنة حداد، وكان من المنكرات أن ظنوا أن المدافع عن مبارك يجب أن يدافع عن ثورة يناير ويمجدها! حتى إن بعضهم طالب بمحاكمة المحامى لأنه فى زعمهم أهان الثورة!. ألا يذكركم هذا بالموقف الذى حدث مع المحامى الفرنسى الفذ «فرنسوا لاكارد» الذى وقف إبان الثورة الفرنسية مترافعاً عن الملكة مارى أنطوانيت، كانت الجماهير الغاضبة تقف خارج المحكمة فى انتظار حكم الإعدام، كانت تتوق شوقاً لفصل رقبتها بالمقصلة، وكانت الصيحات الغاضبة تصل إلى «لاكارد» ولكنه لم يهتم بالجماهير التى من الممكن أن تفتك به، وأخذ يفند الاتهامات ببراعة شديدة، فما كان من المدعى العام «فوكيه» إلا أن أمر بإلقاء القبض عليه بزعم أنه ببراعته هذه يكون قد وضع نفسه فى صف أعداء الثورة!. فى عرف العدالة أن الأصل فى الإنسان البراءة، ولذلك حين يذهب المتهم للمحاكمة يكون من حقه أن يصطحب معه المحامى الذى سيكون لسانه وترجمان مشاعره، ولكن الغوغاء لا يقبلون هذا، هم يصخبون ويهتفون ويصرخون، يريدون رؤية الدماء، تبهج خاطرهم رؤية المتهم الذى يكرهونه وهو معلق على أعواد المشانق، لا شأن لهم بالعدالة والدفاع والدليل والإثبات، المحكمة عندهم لها وظيفة واحدة هى الحكم بإعدام المتهم، ساعتئذ تكون المحكمة عادلة، أما إذا حصل المتهم على البراءة فيا ويل المحكمة التى سيلعنونها ويتهمونها بأبشع الاتهامات، ويا ويل المحامى الذى سيصبح «عدو الشعب» وإذا كانت الغوغاء تتحرك بالشائعات والمشاعر العشوائية العدوانية كما قال شوقى فى خالدته مصرع كليوباترا عن الغوغائيين: «يا له من ببغاء عقله فى أذنيه»، فما بال النخب المثقفة التى أصابها داء «عقل الببغاء»؟! لذلك يحق لى أن أقول فى غير مبالغة إن المحاماة هى «المهنة الرسالية» بحسب أن أصحابها يحملون على كاهلهم رسالة إنسانية هى رسالة النجدة، وهى رسالة تجعل صاحبها من أصحاب المروءة والشهامة والنخوة، هى رسالة أقوى من السيف، فحين أراد نابليون أن يجور على المحاماة، قال: «طالما السيف إلى جانبى، سيكون ضمن سلطانى قطع لسان كل محام يتجرأ على استخدامه ضد الحكومة»، وقد علق المؤرخون فيما بعد على ذلك بقولهم: «لقد برهن الزمن أن لسان المحامى كان أكثر صلابة من سيف الجنرال»، والمحامى حين يمارس مهنته يتعرض لأخطار شتى حتى إن المحامى الفرنسى الشهير «بيريه» قال وهو يترافع أمام محاكم الثورة الفرنسية: «أتقدم إليكم بالحقيقة وبرأسى، تصرفوا فى أحدهما بعد أن تستمعوا للأخرى» وقد يضمر كثيرٌ منا الكراهية لمبارك ونظام حكمه، ويرفع قدر الثورة إلى الجوزاء، إلا أننى تعلمت من المحاماة أن المحامى يجب أن يدفع ولو عمره من أجل أن يهب لنجدة متهم استعان به، وهكذا هى المحاماة، وهكذا هو المحامى.