أحسن تعريف لليلة القدر هو ما ورد فى سورة القدر كما قال تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ» (سورة القدر). ويتوق كثير من الناس إلى معرفة تفصيلات أكثر عن ليلة القدر، وسنحاول الإجابة عن بعض الأسئلة الآتية: السؤال الأول: ما سر تسمية ليلة القدر؟ ..القدْر يعنى الشرف والعزة، وقد اختلف الفقهاء فى الحكمة والمعنى من وصف ليلة القدر بذلك ومن المقصود بهذا الوصف على أقوال كثيرة منها: (1) أن ليلة القدر وصفها الله بأنها ذات قدر وشرف لنزول القرآن فيها، وتنزل الملائكة والروح (جبريل) بالرحمة وبكل أمر قدره الله وقضاه فى تلك السنة. (2) أن العابد الذى يحيى هذه الليلة هو المقصود بوصف القدر، وليس الليلة فى ذاتها. فيكون الإنسان العابد والطائع لله الذى يحيى هذه الليلة بالعبادة والعمل الصالح هو صاحب القدر والشرف. (3) أن الليلة فى ذاتها ذات قدر عند الله، كما أن العبد الذى يحيى تلك الليلة بالعبادة هو صاحب قدر عند الله أيضاً. السؤال الثانى: ما الفرق بين ليلة القدر والليلة المباركة؟ الليلة المباركة وردت فى قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» (الدخان: 3-5). يرى أكثر الفقهاء أن الليلة المباركة هى نفسها ليلة القدر؛ لأن المقصود بالنزول هو القرآن الكريم. نزل فى ليلة وصفها الله فى سورة الدخان بأنها ليلة مباركة، كما وصفها فى سورة القدر بذلك وأعطاها اسم ليلة القدر؛ فمرة بالوصف ومرة بالاسم. وتعدد الأسماء للشىء الواحد يدل على العظمة. وذهب بعض الفقهاء والمفسرين -كما حكاه ابن عساكر- إلى أن المقصود بالليلة المباركة هى ليلة النصف من شعبان التى ورد فى شأنها حديث الطبرانى وابن ماجة بإسناد حسن عن أبى موسى الأشعرى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله ليطلع فى ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن». السؤال الثالث: ما أفضل طريقة لإحياء ليلة القدر؟ ورد فى صحيح البخارى عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه»؛ فقيام ليلة القدر تساوى فى الثواب صيام رمضان، وهذا ما يفسر حديث البخارى عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه». أى قام رمضان دون ليلة القدر؛ لأن قيام ليلة القدر منفرداً يساوى فى الثواب قيام رمضان. وقيام ليلة القدر يكون بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن والصفح والعفو ورد المظالم والتصدق بالأموال، وغير ذلك من كل أوجه الخير. وقد أخرج الترمذى بإسناد صحيح عن عائشة، رضى الله عنها، أنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أى ليلة القدر، ما أقول فيها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «قولى: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنى». السؤال الرابع: هل كانت ليلة القدر معروفة فى الأمم السابقة، أم كانت خاصة فى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، وانتهت بموته، صلى الله عليه وسلم، أم هى مستمرة من بعده إلى قيام الساعة؟ وفيه ثلاثة أقوال للعلماء: (1) قال بعض الفقهاء: إن ليلة القدر منحة ربانية للإنسان منذ استخلافه فى الأرض من أول الأمر عرفها عن طريق الأنبياء، واحتجوا بما أخرجه النسائى عن أبى ذر أنه قال: يا رسول الله، أخبرنى عن ليلة القدر، أفى كل رمضان هى؟ قال: «نعم». فقال أبوذر: أفتكون مع الأنبياء فإذا رفعوا رفعت، أو إلى يوم القيامة؟ قال: «بل هى إلى يوم القيامة». (2) وذهب فقهاء الشيعة إلى أن ليلة القدر كانت فى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، ثم رُفعت أصلاً ورأساً بموت النبى، صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج البخارى عن عبادة بن الصامت أن النبى، صلى الله عليه وسلم، خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين (أى: تخاصما وتجادلا) فقال النبى، صلى الله عليه وسلم: «إنى خرجت لأخبركم بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفعت». (3) وذهب أكثر أهل العلم إلى أن ليلة القدر من خصائص الأمة الخاتمة التى ابتعث فيها الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى قيام الساعة؛ نظراً لقصر أعمارهم عن متوسط أعمار الأمم السابقة؛ فقد أخرج ابن ماجة والترمذى والحاكم وصححه عن أبى هريرة، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «أعمار أمتى ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك». ويدل على تلك الخصوصية ما أخرجه مالك فى «الموطأ» أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أُرِىَ أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل الذى بلغ غيرهم فى طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر. السؤال الخامس: هل يُشترط فى ليلة القدر أن تكون فى رمضان أم يمكن أن ترد فى شهر آخر غير رمضان؟ وفيه قولان للفقهاء: (1) بعض العلماء، ومنهم عبدالله بن مسعود -رضى الله عنه- ورواية مشهورة عن أبى حنيفة، يرى أن ليلة القدر منحة سماوية تنزل بحسب إرادة الله فى جميع السنة، فقد تكون فى رمضان وقد تكون فى غير رمضان. (2) جمهور الفقهاء يرى أن ليلة القدر تكون حصرياً فى شهر رمضان؛ لقوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (البقرة: 185)، مع قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (القدر: 1). السؤال السادس: إذا اخترنا القول بأن ليلة القدر فى شهر رمضان فقط ففى أى يوم بالتحديد؟ اختلف الفقهاء فى تعيين ليلة القدر من شهر رمضان على أقوال كثيرة جداً، بعضها يتجه نحو الإجمال بالإشارة، وبعضها يتجه نحو التحديد بالتعيين. أما الأقوال المجملة بالإشارة إلى ليلة القدر فخمسة أقوال مبنية على التوفيق والجمع بين الروايات المختلفة فى أحاديث ليلة القدر. القول الأول: يرى أن ليلة القدر هى ليلة معينة من جميع ليالى رمضان، وفى العشر الأواخر آكد، وفى ليالى الوتر من العشر الأواخر أشد تأكيداً. وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة فى الجملة. قالوا: وقد أخفاها الله على الأمة ليجتهدوا فى طلبها، كما أخفى ساعة الإجابة فى يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء فى اليوم كله. القول الثانى: يرى أن ليلة القدر هى ليلة معينة من العشر الأواخر من رمضان. وهو قول بعض المالكية والمذهب عند الشافعية؛ لما أخرجه البخارى ومسلم واللفظ له عن ابن عمر أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال عن ليلة القدر: «التمسوها فى العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقى». القول الثالث: يرى أن ليلة القدر هى ليلة متنقلة فى شهر رمضان كله تأتى فى أى يوم منه من كل عام. وهو قول الإمام أبى حنيفة. القول الرابع: يرى أن ليلة القدر هى ليلة متنقلة فى ليالى العشر الأواخر من رمضان. وهو قول عن مالك وأحمد وبعض الشافعية. القول الخامس: يرى أن ليلة القدر هى ليلة معينة من ليالى العشر الأواسط من رمضان. وهو قول بعض المالكية والشافعية وروى عن عثمان بن أبى العاص والحسن البصرى. وأما الأقوال المحددة بتعيين ليلة معينة من ليالى رمضان لتكون هى ليلة القدر، فمن أشهرها: (1) أن ليلة القدر هى أول ليلة من ليالى رمضان. وهو قول أنس بن مالك وأبى رزين العقيلى من الصحابة. (2) أن ليلة القدر هى ليلة السابع عشر من رمضان. وهو قول زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود؛ لأنها الليلة التى كانت فى صبيحتها وقعة بدر الكبرى، ونزل فيها قوله تعالى: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ» (الأنفال: 41)، وهو ما يتوافق مع قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (القدر: 1). (3) أن ليلة القدر هى ليلة التاسع عشر من رمضان. وهو قول الإمام على وزيد بن ثابت ورُوى عن ابن مسعود. وهذا القول مبنى على اختلاف الرواية فى تحديد وقعة بدر الكبرى. (4) أن ليلة القدر هى ليلة السابع والعشرين. وهذا القول هو الأشهر عند المالكية وهو مذهب الحنابلة وبه قال الصاحبان أبويوسف ومحمد، ورُوى عن ابن عباس، فقد أخرج مسلم عن أُبىّ بن كعب، قال عن ليلة القدر: والله إنى لأعلم أى ليلة هى. هى الليلة التى أمرنا بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقيامها وهى ليلة صبيحة سبع وعشرين. (5) ويرى الإمام الشافعى أن ليلة القدر هى ليلة الحادى والعشرين، وفى رواية ليلة الثالث والعشرين من رمضان. السؤال السابع: هل توجد علامات لليلة القدر؟ ورد فى علامات ليلة القدر أحاديث كثيرة، من أصحها ما أخرجه مسلم عن أُبىّ بن كعب أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «أمارتها أن تطلع الشمس فى صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها». السؤال الثامن: هل يفضَّل لمن عرف ليلة القدر أن يستر على نفسه أم يتحدث مع الناس فيما رأى؟ بالتأكيد من يظن أنه قد رأى ليلة القدر يدرك أنه ليس على يقين قاطع؛ لذلك اتفق الفقهاء على أنه يُستحب لمن يظن رؤية ليلة القدر أن يكتمها على نفسه من باب الستر فى العبادة وعدم المزايدة على الآخرين، ومن باب عدم تمكين الفُساق من تأليف القصص والحكايات، خاصة أن طريق العبادة مع الله يستلزم الخصوصية، ولا يليق معه الثرثرة أو الرياء. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى.