رغم أن مافيا الفساد فى مصر أصبحت من القوة وترابط المصالح بما يمكنها من تعويق عمل أجهزة الرقابة وحصارها، وبرغم أن البعض يقدر حجم الفساد بنسبة تقرب من 20% من الناتج المحلى العام وربما تتجاوز ذلك!، لأن الفساد ينتشر على كافة المستويات ويشمل معظم الأنشطة، ويعشش فى أماكن بعينها تركز عليها تقارير الأجهزة الرقابية، تبدأ بالجمارك وأجهزة المدن الجديدة ولا تنتهى بالصناديق الخاصة!، لكن الفساد يبلغ ذروته فى المضاربة على أراضى الدولة التى أدت إلى شيوع فساد عظيم يتجاوز حجمه مئات المليارات من الجنيهات، تشكل ثروات مهولة تراكمت فى يد نخب محدودة فى غضون فترة زمنية لا تتجاوز عقدين من الزمان، فى إطار تحالف الثروة والسلطة الذى حكم مصر فى نهاية عهد الرئيس مبارك!. وبرغم كل هذه المؤشرات المقلقة التى جاءت على ألسنة مسئولين كبار فى أجهزة الرقابة المصرية، فإن حصار الفساد فى مصر وتصفيته أمر ممكن وميسور إذا صح عزم الإرادة السياسية على اجتثاث جذوره، وتجاوزت أجهزة الرقابة المتعددة حساسيات المنافسات التى تضعف تعاونها وتبدد جهدها المشترك، وإذا أتيحت الفرصة للرقابة الشعبية والبرلمانية كى تقوم بدورها فى كشف أوجه الفساد مبكراً، لكن ما يفوق ذلك أهمية وخطورة هو إصلاح البنية التشريعية والقانونية المعنية بقضية الفساد على نحو يسد كل الثقوب والثغرات، خاصة أن الثقوب جد واسعة تسمح بنزح المليارات من المال العام فى سهولة ويسر، كما أن الثغرات متنوعة وعديدة تفتح الأبواب على مصاريعها لعصابات الفساد دون عائق حقيقى، بل وتمكنها من تطويع إرادة الدولة لخدمة أهدافها!. وعندما سألت المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، أكبر جهاز رقابى فى مصر، فى جلسة طويلة امتدت ثلاث ساعات: ما هو مصدر القوة الذى يسمح لضابط شرطة إسرائيلى أن يستجوب رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق إيهود أولمرت فى قضية فساد شارك فيها عندما كان رئيساً لبلدية مدينة القدس؟ رد المستشار جنينة قائلاً: مصدر القوة يكمن فى القانون الإسرائيلى الذى يعاقب كل مسئول تنفيذى كما يعاقب كافة المسئولين عن أجهزة الرقابة والتحقيق، إن وقع تحت أيديهم وقائع فساد، وتراخوا فى اتخاذ الخطوات الضرورية لتحقيقها والتثبت من صدق وقائعها وإحالتها إلى القضاء، وبسبب ذلك تحتل إسرائيل مركزاً متقدماً فى شفافية إجراءات مناهضة الفساد، على حين يتراجع مركز مصر إلى 112 من 193 دولة.. انتهى الاقتباس من كلام المستشار هشام جنينة. وفى مصر قبل ثورتى يناير ويونيو كانت تكفى إشارة غامضة من أعلى كى يختفى ملف أى قضية فساد فى بئر عميقة!، أو يتم حفظها دون أى التزام بإعلان أسباب هذا الحفظ ومسوغاته!، ودون وجود سلطة محايدة تبحث مصير هذه الملفات المختفية والضائعة!.. ولو أن القانون المصرى انطوى على نص مماثل يعاقب كل مسئول تقع تحت يديه وقائع فساد ويتراخى فى اتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة، لتغيرت الأحوال كثيراً وضاق الحصار على الفاسدين، وقلت جرائم الفساد بنسب عالية، وتحقق بالفعل استقلال الأجهزة الرقابية عن السلطة التنفيذية، خاصة أن وقائع التاريخ القريب تقول لنا، إنه فى الثمانينات تغير رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات لمجرد أنه اعترض على بيع شركات قطاع الأعمال الناجحة بأقل من قيمتها السوقية! ومن بعدها لم يصبح جهاز المحاسبات طرفاً فى عملية تقييم الشركات المعروضة للبيع!، كما اشتدت الحملة على رئيس آخر للجهاز أصر على معرفة الأسباب الحقيقية لحفظ ملفات التحقيق فى واقعة اتهم فيها وزير العدل وعدد من المستشارين بالحصول على مكافآت غير مستحقة.. لأنه ما من سلطة ينبغى أن تمنع تطبيق القانون فى قضايا الفساد بدواعى المواءمة السياسية!، أو لأن فتح ملف بعينه يمكن أن يضع الدولة فى حرج بالغ!، أو لأن التوقيت غير ملائم، وكلها تعلات غير صحيحة تسمح بالاستخدام السياسى للقانون، لكنها تأكل مصداقية الدولة القانونية وتنال من شفافيتها، لأن أول واجبات الدولة القانونية هو (الإفصاح) عن كل الملفات ما لم يتعلق الأمر بمصالح أمنية عليا تدخل ضمن أسرار الدولة. وأظن أن ما يساعد على الإفصاح وزيادة الشفافية، وجود رئيس منتخب يتمتع بثقة واسعة من جماهير شعبه، يعلن على الملأ كل يوم أنه يجىء للحكم لا يحمل فواتير مستحقة لأى من أطراف الداخل أو الخارج، ويطلب علناً من كل أجهزة الرقابة ملاحقة الفساد وسد ثقوبه وثغراته لأن الفساد يأكل عائد التنمية أولاً بأول، ويفسد قوانين السوق ويبطل عملها، ويضر مناخ الاستثمار بغير حدود.. وفى ظل هذه المتغيرات الأساسية ربما يكون من حقنا أن نسأل، لماذا تم حفظ قضية الحزام الأخضر التى يرى رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات المستشار هشام جنينة، أنها تعكس مثالاً صارخاً للفساد المؤسسى الذى حول مشروعاً جاداً لحماية مدينة 6 أكتوبر من أخطار التصحر، من خلال إنشاء شريط من الغابات الشجرية تروى بمياه الصرف الصحى المعالجة يحوز ملكيته فئات محدودة من المسرحين من القوات المسلحة وأبناء الشهداء إلى حزام من القصور الفاخرة والشاهقة، لأن أراضى الحزام الأخضر تم تخصيصها لبعض النخب دون استحقاق قانونى، استطاعوا بضغوطهم إلزام الدولة أن تدفع تكاليف ترفيق هذه الأراضى التى حصلوا عليها بثمن بخس!؟.. ولماذا لم يتم التحقيق فى قضية أراضى طرح النهر فى المنصورة التى استولى عليها مجموعات من أصحاب النفوذ شيدوا عليها أبراجاً سكنية شاهقة دون سند من القانون، ومارسوا ضغوطهم على الدولة كى تدفع تكاليف نقل خطوط الضغط العالى إلى مكان آخر بقيمة زادت على 45 مليون جنيه رغم أن الأراضى تدخل ضمن أملاك الدولة!.. ولماذا تظل قضية الصناديق الخاصة لغزاً غامضاً لا يخضع لأى رقابة، يمثل باباً خلفياً للفساد تصرف منه ملايين الجنيهات مكافآت غير مستحقة لأعداد قليلة ضمن نسق الإدارة العليا!، لأن الصناديق لا تخضع لأى من صور الرقابة اللاحقة أو السابقة، خاصة مع شيوع هذه الصناديق إلى حد جاوز 70 صندوقاً فى بعض الوزارات، رغم أن الأصل فى الصناديق الخاصة أنها أقيمت بعد نكسة 67 لإتاحة الفرصة للمحليات كى تمول من مصادر ذاتية بعض المشروعات الضرورية، لأن الخزانة العامة توجه أغلب إنفاقها لإزالة آثار العدوان، لكن البيروقراطية المصرية بمهارتها الماكرة حولت الفكرة السديدة إلى مشروع فساد عظيم!.. والمؤسف فى الصورة أن كافة الملفات تم تحقيق وقائعها فى تقارير رسمية، وتم رفعها إلى مستويات الإدارة العليا ليكون مصيرها الحفظ دون إبداء أسباب الحفظ أو إعلانها!. وإذا كان فى الإمكان أن ندرأ كثيراً من أنشطة الفساد من خلال تعديل قانونى واحد، ينص على عقاب كل مسئول تقع تحت يده واقعة فساد ويتراخى فى اتخاذ الخطوات الضرورية اللازمة لتحقيقها، فإن فى الإمكان حصار الفساد وتصفيته على نحو جاد، من خلال الالتزام بعلانية كل تقارير أجهزة الرقابة خاصة تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات ما لم يكن الأمر متعلقاً بمصالح مصرية عليا.. ولو أن الدولة أخذت بمنهج العلانية والشفافية الكاملة، وحرصت على إعلان تقارير أجهزة الرقابة لما أمكن بيع عدد كبير من شركات قطاع الأعمال العام الرابحة بأقل من قيمتها السوقية!، ولما تصورت بعض مؤسسات الدولة أنها فوق القانون تستطيع أن تغلق أبوابها فى وجه رقابة الدولة على المال العام!، ولما شاعت ثقافة استباحة المال العام لأن دوائر النسق الأعلى فى الدولة تعتبر نفسها فوق القانون!، ولما شاع تخصيص أراضى الدولة فى مناطق متميزة يتم تجهيزها لإنشاء مشروعات حيوية كبرى على نخب بعينها تحقق أرباحاً مهولة من المضاربة على ثمن هذه الأراضى. إن حصار الفساد وتصفيته لا يقلان أهمية عن حصار الإرهاب وتصفيته، لأن شيوع الفساد هو الذى يسوغ للإرهاب ارتكاب جرائمه ويفقد الثقة فى الحكم وينشر الإحباط وسط جموع الشباب، ويمنع قدوم المستثمرين الجادين، ويزيد من انتشار عدم الرضا فى أوساط عديدة داخل المجتمع.. ولهذه الأسباب يتحتم إغلاق جميع الثغرات التى ينفذ منها الفساد.