الهدف الرئيسى المعلن من بناء السدود الإثيوبية التخزينية هو توليد الكهرباء وتصديرها إلى الجيران، كمصدر رئيسى للعملة الصعبة ولزيادة الدخل القومى. هذا حق مشروع لإثيوبيا، ولكن بشرط مراعاة قواعد القانون الدولى الحاكمة لأعمال التنمية على الأنهار الدولية المشتركة. فى الأنهار الدولية يجب مراعاة ألا يكون تحقيق فائدة دولة على حساب إضرار دولة أخرى، ومن المهم التوفيق بين مصالح الدول المشاركة فى النهر الواحد. ويوجد فى إثيوبيا 12 حوضاً لأنهار رئيسية أخرى غير حوض النيل الأزرق، ومنها نهر أومو المشترك مع كينيا. وقد قامت إثيوبيا بإعداد مخطط سدود على نهر أومو مشابه لمخطط السدود على النيل الأزرق ولكن بسعات أقل، نظراً لصغر نهر أومو، مقارنة بالنيل الأزرق. فقد خططت إثيوبيا لإنشاء 5 سدود على نهر أومو باسم سدود جيبى أو جلجل، وانتهت بالفعل فى عام 2010 من بناء سدى جيبى الأول بسعة 184 ميجاوات وسد جيبى الثانى بسعة 420 ميجاوات، ونفذتهما شركة «سالينى» الإيطالية. ووقّعت إثيوبيا كالعادة مع الشركة الإيطالية نفسها التى تنفذ سد النهضة حالياً، عقد تنفيذ سد جيبى الثالث فى عام 2006، وبتكلفة تصل إلى 1.7 مليار دولار. والسد تبلغ سعته 14 مليار متر مكعب، وبارتفاع 243 متراً، وهو الأعلى ارتفاعاً فى أفريقيا، وما يعادل عمارة مكونة من 81 دوراً. وكان يُقال عن سد جيبى الثالث الكلام نفسه الذى يُقال حالياً عن سد النهضة الإثيوبى، بأن السد سوف يُستخدم فقط لتوليد الكهرباء، حيث تبلغ سعة محطته الكهربائية حوالى 1870 ميجاوات. ولكن بعد الانتهاء من أكثر من 75% من بنائه حالياً تم بالفعل تهجير حوالى 300٫000 من المواطنين الإثيوبيين من أراضيهم أسفل السد فى مساحة تزيد على 700٫000 فدان لزراعة قصب السكر، وتم بالفعل إنشاء 6 مصانع لإنتاج السكر هناك. طيب ممكن حد يقول إثيوبيا حرة مع مواطنيها ومفيش مشاكل. وهذا منطق غير صحيح ولا يتفق مع مبادئ القانون الدولى ومع حقوق الإنسان واللى عاملينها فى مصر لبانة لبعض جمعيات المجتمع المدنى وحديث كل يوم. عموماً آثار سد جلجل الثالث السلبية لا تنحصر فقط على مواطنى إثيوبيا المقيمين فى منطقة السد، بل تؤثر بشكل أكبر على مواطنى كينيا وعلى مواردهم المائية. نهر أومو ينتهى فى كينيا بأضخم وأشهر بحيرة صحراوية فى العالم وهى بحيرة توركانا. ويعيش حول البحيرة حوالى 250٫000 من مواطنى كينيا على أنشطة الصيد والزراعة. وسد جيبى الثالث سيخفّض منسوب البحيرة بما لا يقل عن 10 أمتار، وبما يقضى على معظم أنشطة السكان المحليين. مصيبة سوداء على كينيا وسكانها فى المنطقة الشرقية، وتقدمت كينيا بالشكوى إلى الجهات الدولية وامتنع البنك الدولى وبنك الاستثمار الأوروبى عن تمويل هذا السد. وكان رد فعل السيد رئيس وزراء إثيوبيا الراحل ميليس زيناوى غريباً ولا يعكس إلا اهتماماً بالمصلحة الذاتية فقط، حيث قال كلمات تستعدى شعوب إثيوبيا على الغرب «بأنه يجب أن يتم بناء هذا السد بأى تكلفة، لأن الغرب لا يريد لأفريقيا أن تتقدم حتى نعود إلى خدمة سائحيهم ولإحياء متاحفهم». وتقدمت إثيوبيا إلى بنك التنمية الأفريقى للحصول على تمويل للسد، ولكن البنك لم يوافق لأضرار السد الجسيمة على كينيا. وأخيراً حصلت إثيوبيا على قرض صينى لتغطية تكاليف الأجزاء الميكانيكية والكهربائية للسد. وكهرباء السد سيتم تصدير جزء كبير منها إلى دول الجوار، كينيا 500 ميجاوات وجنوب السودان 200 ميجاوات وجيبوتى 200 ميجاوات. وللأسف فإن الجهات المانحة (البنك الدولى والبنك الأفريقى) قامت بالموافقة على تمويل خطوط نقل الكهرباء إلى هذه الدول، وفى ذلك التفاف حول القوانين والأعراف الدولية. وإثيوبيا مستمرة فى البناء، ومن المتوقع الانتهاء من السد قريباً دون أى اهتمام بالانعكاسات السلبية للسد، سواءً على الصعيد الداخلى أو الخارجى. تصرفات غريبة من دولة إثيوبيا وعدم مراعاة، بل حتى عدم التفات إلى قاعدة عدم الإضرار بالشعب المجاور على النهر. وتصرّف غريب من القيادة الكينية بالموافقة على استيراد الكهرباء من هذا السد الذى يهدد مستقبل جزء من شعبها. وتصرّف غريب من الصين لتحديها القوانين والأعراف الدولية ومشاركتها فى تمويل السد. وتصرّف طبيعى من شركة «سالينى» الإيطالية التى تعوّدت على استغلال الداخل الإثيوبى، وبناء معظم السدود الخلافية من خلال تعاقدات تسليم مفتاح، يعنى تصميم وتنفيذ وإشراف على التنفيذ، حاجة مابتحصلش ولا هتحصل إلا مع هذه الشركة. السد سوف يتم الانتهاء من إنشائه العام المقبل، وكينيا وإثيوبيا حالياً مجتمعين على مستوى الخبراء للاتفاق حول سنوات تخزين المياه أمام السد وسياسات تشغيل السد، لتقليل الأضرار على كينيا. وطبعاً الكلام ده مجرد مخدر للشعب الكينى، لأن الأضرار تجىء أصلاً من الزراعات الإثيوبية على مياه النهر، ومن الحجم الكبير للسد، مقارنة بتصرّفات النهر، وليس سنوات التخزين وسياسات التشغيل. ليس مهماً المحافظة على أهم بحيرة صحراوية فى العالم، وليس مهماً مئات الآلاف من الشعب الكينى، ولكن المهم دولارات تصدير الكهرباء الإثيوبية ونمو الاقتصاد الإثيوبى، ولو على حساب جيرانها. وللأسف السيناريو نفسه يتم تفصيله وتطبيقه على مصر فى أزمة سد النهضة، مع فارق كبير أن تأثير سد النهضة أضعاف أضعاف تأثير سد جيبى الثالث، وأن مصر 90 مليون نسمة، ومن المفروض أن تكون الدولة الأكبر والأقوى فى المنطقة. والمدهش كمان أنه فيه مصريين ومنهم مسئولون سابقون يطالبون بالاعتراف بسد النهضة والبدء فى مناقشة سياسات التشغيل وسنوات التخزين مع إثيوبيا، أى والله العظيم وعلناً فى وسائل الإعلام. وأمريكا وأوروبا سبق أن رفعوا توصيات للدولة المصرية بالمعنى نفسه خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك بناءً على مقترحات إثيوبية. الخوف كل الخوف من جريان واستهلاك وقت المباحثات والمفاوضات فى دراسات عقيمة كما حدث خلال السنوات الثلاث السابقة، وإثيوبيا مستمرة فى بناء السد حتى نصبح أمام أمر واقع إما الاستسلام، وإما الحلول الأخرى والصعبة على الجميع. إن الحل الأمثل والعاجل للأزمة معروف للمسئولين فى إثيوبيا والسودان، وطبعاً فى مصر، وهو أنه لا بد من تقليل ارتفاع والسعة التخزينية للسد وصولاً إلى سعة تخزينية توافقية بين الدول الثلاث ولا تسبب أضراراً جسيمة على مصر.