هناك غضبة وهبة من شباب الثوار بسبب قيام عمال النظافة والترميم بمحافظة القاهرة بطلاء حوائط ميدان التحرير المدون عليها كتابات ما يعرف ب«شعارات وفن جرافيتى ثورة 25 يناير». ويمكن تفهم الجانب الرمزى لما يعنيه فن وشعارات الثورة للثوار، ويمكن أيضاً تفهم أن يفسر البعض عملية الطلاء على أنها نوع من طمس الإدارة الحكومية الحالية لكل ما له علاقة بذكريات التحرير. وقد يذهب البعض فى تحليلاته بعيداً إلى حد القول بأن عملية الطلاء والطمس هى مرحلة مكملة لمشروع تطهير ميدان التحرير من بقايا بعض القوى الغريبة العجيبة التى استأجرت ميدان التحرير لصالحها. فى عالم وزمن يغلفه الشك فى كل شىء وأى شىء وكل صانع قرار، سواء كان من الحكومة أو من المعارضة، فإن أى تفسير جائز وممكن ومطروح للتداول. ووصل الحد بأزمة «طلاء الرسوم» فى ميدان التحرير إلى أن الدكتور هشام قنديل أصدر تصريحاً ينفى أى تفسير سياسى لعملية الطلاء والطمس، مفسراً ذلك بأنه خطأ من عمال نظافة محافظة القاهرة. وفى رأيى المتواضع فإن قصة طمس الطلاء هذه هى نموذج رائع وبديع لأزمة العقل المصرى المعاصر الذى يتوقف طويلاً طويلاً أمام الشكل دون أن يحركه الأهم وهو الموضوع. عشنا فترة فى بداية الثورة، يهتم فيها الناس بأن يبدأ أى متحدث فى أى قناة بالتسبيح بالثورة والشهداء كجواز مرور له فى بداية الحوار، ثم يصبح مهماً للغاية أن يردد أنه حينما كان فى الميدان أو عندما قابل فى الميدان، أو حينما صادف فى الميدان.. المهم أن يكرر كلمة الميدان عشرات المرات حتى يثبت شكلاً أنه كان مع وسيظل إلى الأبد مع الثورة. وعشنا فترة يتوقف فيها المحلل السياسى العميق أمام وصف الضيف الذى يحاوره: «هل يصف الرئيس مبارك بأنه الرئيس السابق أم المخلوع؟». إذا كان الوصف السابق فهو من الفلول والعياذ بالله، وإذا قال المخلوع فهو من المبشَّرين بغنائم الثورة! ولم يهتم أحد بالقضية الأهم وهى كيف يمكن أن يكون الرئيس القادم من الثوار أو مؤيداً لهم؟ واليوم نأتى إلى مأساة قيام عمال محافظة القاهرة بطلاء شعارات الثورة! يا ثوار مصر، يا أنقى وأنبل ما أنجبت هذه الأمة منذ حرب أكتوبر 1973، الطمس الذى يجب أن يزعجكم ليس طمس العبارات والشعارات ولكن الطمس الذى وصل إلى حد الجريمة، وهو طمس ثورتكم كلها من الألف إلى الياء! الثورة تم اختطافها ولم يبقَ منها سوى الشعارات المكتوبة التى تتمسكون بها. أين أنتم يا ثوار من مقاعد البرلمان والمجالس المحلية والإدارة الاقتصادية والحكومة والرئاسة؟ أين أنتم من تطبيق شعارات الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية؟ أين تأثيركم فى استفتاء مارس وانتخابات البرلمان وانتخابات الرئاسة؟ أين أنتم من وسائل الإعلام الآن، تلك التى كنتم تحتلون شاشاتها وصفحاتها ليل نهار؟ أين وزنكم النسبى اليوم فى صناعة القرار؟ هذا هو الطمس الموضوعى الذى يجب أن تتوقفوا أمامه، وليس الاحتجاج على عمال محافظة القاهرة الغلابة!