من يقول لك: ربما، وأظن، واحتمال، ونسبتها كذا فى المائة، فهو يتحدث بلغة العلم الحقيقى، من يتحدث جازماً بمؤكد، وأكيد، ولا بد، وحتماً، وبنسبة 100%، فهو يتحدث بلغة العلم المزيف، فالعالم الحقيقى متشكك، موسوس، مغرم بالتفاصيل يقول هذه هى المعلومات والحقائق، وتعالوا نجرب لنصل إلى نتائج، أما العالم المزيف، فيقول هذه هى النتائج الجاهزة وتعالوا نفبرك لها حقائق، ونخترع لها معلومات لنلبسها على المقاس والطلب والرغبة، وتعالوا نتفق مبدئياً على أن الكثرة والانتشار ليسا معياراً للحقيقة، ولا ميزاناً للصدق وإلا لكان المنجم أصدق من عالم الفلك، فالمنجمون بالآلاف وعلماء الفلك بالعشرات، المحك الحقيقى هو قوة حجة الفكرة وقدرتها على الصمود أمام سهام التكذيب. العلم يعتمد على صدق وسائله ومصداقية تجاربه، أما العلم الزائف فيعتمد على السلطة أياً كان نوعها، يتكئ العلم الزائف على عكاز السلطة، ينفخ بصوته المبحوح الكاذب فى ميكروفون السلطة، فيمنح صوته قوة مضاعفة ليست فيه، العلم الزائف يثير الغبار بالسلطة التى يعتمد عليها ويوجه نور السلطة الزينون المتوهج فى عيون البشر والناقدين حتى لا يروا العيوب، والمثالب، والنواقص، العلم الزائف يقتبس قوة سلطة دينية، فيلبس عمامتها أو سلطة عسكرية، فيرتدى نياشينها، أو سلطة رأى عام، فيجلد المعارضين بسياطها، يقنع العلم الزائف الناس من خلال تأثير هذه السلطة وليس من تأثير قوة منطقه وتماسك حجته وقياسات تجاربه، الالتصاق بالسلطة والتمسح بأعتابها والاختباء خلف أسلحتها عادة مزمنة لدى أصحاب العلم الزائف يجعل أقزامها عمالقة حين يقفون على أكتافها. العلم دائماً ما يركز فى معمله، وميكرسكوبه وعلى تجاربه وأبحاثه ولا يلقى بالاً لما يحدث خارج باب المعمل الموصد المغلق ولا يخترع معارك وهمية، أو مؤامرات بيزنطية، العلم الزائف دائماً ما يشكو من أنه يتعرض لمؤامرة كونية ومحلية، من مافيا شركات الأدوية، ومن الحاقدين حزب أعداء النجاح ومن الصليبية العالمية والصهيونية الإمبريالية والمخابرات الأرضية والسماوية وسارقى الأسرار والمنافسين الأشرار.. إلى آخر هذه الأوهام التى تنفع لأفلام هيتشكوك وقصص أجاثا كريستى أكثر مما تنفع لجو ومناخ العلم الجاد، وبالطبع يعجب العامة الذين يغازلهم العلم المزيف، ويداعب مشاعرهم، ويراهن على كسبهم لأرضه بهذا الفيلم الأكشن الذى يتآمر فيه الكون بمجراته ونجومه على العالم المسكين الذى سيقدم للبشرية أعظم الاختراعات، ويحول بينه وبين فائدة الناس هؤلاء المتآمرون آكلو لحوم العلماء!!. العلم يحب الشمس والنور وينمو فى الأكسجين والهواء النقى ويحتاج الضوء ليصنع منه كلوروفيل التغيير والإبداع لذلك، فمقياسه النشر العلمى فى الدوريات العلمية ومعياره وميزانه انتقادات العلماء فى المؤتمرات العلمية الدولية، العلم يسعى للعلن، لا يختبئ فى كهف ولا يعرف شغل العصابات ولا يتقن لغة الشفرة والسيم والتلسين ولهجة من تحت لتحت والدروب الجانبية والأنفاق السرية، العلم الزائف على العكس، يدعى السرية ويوهم الناس بالكتمان مخافة التسريب واحتياطاً من أطراف المؤامرة، وتحسباً للسطو المسلح، والغريب أنه مع كل هذا الجو الهيتشكوكى الكافكاوى الغامض غالباً ما يعلن نتائجه فى مؤتمرات صحفية، وضجة إعلامية وبروباجندا جوبلزية!!، وهذا التناقض هو ما سنشرحه غداً.