بعضهم عندما يُفتح أمامه باب المناقشة بخصوص ظاهرة انعزال الأجيال عن بعضهم وتغير الزمان، تجده ينظر لك في ذكاء خارق مردداً "بالطبع، كل زمان وله أدان". الحقيقة أن الموضوع ليس بتلك البساطة، أكاد أرى نمطاً متكرراً عبر كل تلك العصور ولكنه نمط غريب يصعب تحليله لأن من الاستحالة أن تستمر طفولة شخص واحد لأكثر من جيل، فطفولة الشخص تحدث في جيل واحد فقط، بعدها يكبر وينضج ويبدأ في رفض كل ما يلي تلك الحقبة، ولكن يبدو الأمر وكأن هناك نسخاً متكررة منا فى كل عصر: الإنسان المنفتح على ما هو آت والإنسان الخائف من العصر، المُحدث والملتزم بالماضى، المنادى بحرية المرأة ومن يريد للمرأة أن تعود أماً وزوجة فقط وتلزم المنزل، أنظر فى كل عصر سترى المطربة التى يعشقها البعض ويراها البعض تحث على الفسق والفجور، سترى المراهق الذى يقدم على قراءة شىء ما أو الإستماع لشىء ما بينما يراه أهله تفاهة أو فساداً. كل شىء حولنا ما هو إلا مجرد أنماط متكررة حدثت فى كل العصور. من يعلم...ربما كان هناك نسخ أخرى منى كذلك فى كل عصر تنظر إلى كل ما حولها وتتعجب بنفس الكيفية! لكنى أستبعد ذلك لأننا قبل هذا الزمن. كان يصعب عليك أن تضع كافة العصور بمنتهى السهولة إلى جانب بعضها وتقارن، أما فى أيامنا هذه فأنت –على سبيل المثال- تستطيع بنقرة أن تسمع عبد المطلب وكارم محمود، وبنقرة أن تسمع عبد الحليم حافظ، وبنقرة أن تسمع محمد منير، وبنقرة أخرى أن تسمع –أستغفر الله العظبم- أوكا وأورتيجا، فهذه قد تكون بالفعل هى الميزة الوحيدة التى لم تحدث من قبل فى أى عصر من العصور، أن تستطيع أن تضع كل شىء جنباً إلى جنب وتنظر إليه من الأعلى فترى الصورة كاملة وتلاحظ الأنماط المتكررة. لكن لحظة...ألم يكن هذا هو الحال بالفعل وقت ظهور التلفاز؟، أكاد أسمع أحدهم يقول فى إنبهار وهو ينظر إلى شاشة أول تلفاز يراه فى حياته "يا إلهى لقد أصبح العالم صغيراً جداً بعد إختراع هذا الشىء. أصبحت تستطيع أن ترى ما يحدث عبر كل العالم جنباً إلى جنباً فى لحظة واحدة من خلاله!"، وبالتأكيد قيل نفس الشىء وقت ظهور الراديو، ووقت إختراع التليفون، وبرقيات التلغراف، وربما وقت إختراع الكتابة والتدوين فى عصور ما قبل التاريخ! ستجد هناك دائماً الكثير من المتأملين العباقرة الذين يقولون بعد قراءة الكتب من نوعية عصر القرود: "هذا الرجل كان عبقرياً وتنبأ بالعصر الذى نعيشه الآن"، لكن الحقيقة ليست كذلك، فالكتاب لا يزيد عن مجرد سرد لخواطر شخص مفزوع من كل ما يحيط به، الحقيقة أنه لا يوجد عصر واحد للقرود، بل أن كل عصر قادم سيبدو لأبناء العصر السابق له عصراً للقرود، فكل ما ذكرناه أكاد أقسم أنه ماهو إلا جزء من دائرة كبيرة لا تأبى إلا أن تعيد نفسها فى كل عصر بشكل يجعلك تتساءل: هل تتقدم البشرية فعلاً؟ أم أن كل مسألة التقدم هذه مجرد وهم كبير نعيشه ونحن فى الحقيقة ندور حول أنفسنا فى حلقات متكررة سخيفة؟ لا أعلم لكن على أى حال أتمنى أن لا يقرأ أحداً فى المستقبل هذا الذى كتبت فيهزأ بى متهماً إياي بالسذاجة!.