عندما قرأت حديثا فى إحدى الصحف موجها إلى الأطفال من غير لغة الخطاب الرئيسة لدينا فى مصروالوطن العربى والتى تستقى من "عالم الحيوانات" عندما لمحت هذا الأسلوب النادر قلت لنفسى: الحمد لله أن هناك قطرة فى بحر الحديث إلى الطفل تعتمد على عالم البشر،وليس على "عالم الحيوانات" وحلمت أن يكون التوجه القادم -بإذن الله- تقديم شخصيات العلماء والأبطال والرموز التاريخية -مثلا- بدلا من تمجيد "القط والفأر والأسد والفيل والنعامة والزرافة.." وباقى العائلة، لأننى كتبت من قبل بقناعة تامة فيما يشبه الاستغاثة المتكررة، عن تلك الكارثة التى حلت بالأمة العربية فى العصر الحديث والتى تعنى: الحديث إلى الطفل ومخاطبته بلغة الحيوانات، وتصوير عالم الطفل واختزاله فى حديقة الحيوان،وعالم الحيوان. انظروا إلى مئات المكتبات فى مصر حيث تمتلئ الأرفف بالآف القصص التى تخاطب عقل ووجدان وروح وخيال الطفل بلغة الحيوانات، وكلها تسير على نمط واحد -تقريبا- لا تحيد عنه: عالم الحيوان.. هنا قصة الأرنب مع الكلب والبطة والفرخة والأسد والثعلب والفيل والنملة والزرافة والقرد.. وغير ذلك، فضلا عن "اللوجو" الشهير فى عالمنا العربى والذى قمنا "باستعارته" -تقريبا -من الغرب:قصص ومغامرات وعالم القط والفأر. وليت الأمر يتوقف على هذا فحسب، بل يتعدى الموضوع -اى عالم الحيوان- وتصوير ما فيه من صراع وحرب ومشاهد درامية ورومانسية، إلى مفهوم تافه لا أدرى من الذى قام بتأسيسه فى عالمنا العربى وهو: "ترسيخ مفهوم القيم والفضائل والأخلاقيات" من خلال عالم الحيوان فحسب، حتى بات الأمر لا يخرج لدى الأطفال- والذين أسهموا فى هذه الصناعة بشكل او بآخر- أن النملة تعاونت مع صديقتها فى جلب وتخزين الطعام، ومن ثم علينا ان نتعاون، وأن الأسد هو ملك الغابة، وأن كل الحيوانات تخافه، وبرغم هذه القوة والجبروت والغرور إلا أن القرد استطاع أن يتفوق عليه، ذلك -وهى الحيلة الذكية العبقرية التى يطرحها المؤلف- لأن الأسد عندما غلبه النعاس، أو سقط مغشيا عليه من فرط المجهود البدنى الذى يقوم به -برغم مكانته- أو من فرط تناوله للحوم رخيصة أو معدومة الثمن فى عالم الحيوان فقط بالطبع. المهم أن القرد قام بسرعة وقفز من مكانه ليأخذ الطعام الموجود أمام الأسد الذى يتودد اليه الجميع، لا لكرم أخلاقه وطباعه وحسن سلوكه بل لجبروته وسطوته وقوته وكبريائه وسيطرته على الأمن فى الغابة ابتداء من الأمن المركزى وحتى أمن الدولة!، هكذا نخاطب ونعلم الطفل فى بلادنا فنون السطوة والتسلط وفنون "البلطجة" ايضا. وهذه القصة كغيرها من قصص "الهبل" تود توجيه رسالة من بين السطور للطفل:وهى أن القوة ليست هى المصدر الوحيد للحياة وإنما الذكاء وسرعة التفكير والبداهة وحسن التصرف و.. وليت هذه "الحزمة"من النصائح وصلت الى الطفل عبر هذه العقود الطويلة، أشك فى ذلك. ولا تقتصر عملية "الإغراق الحيوانى" فى المنتج الورقى -الذى يتجاوز الآف القصص والسلاسل المتتابعة التى تصول وتجول فى عالم الحيوان، وكأننا لا نخاطب مخلوقا وإنسانا كرمه الله، أو طفلا فى مرحلة النمو الفكرى والوجدانى، بل نخاطب مخلوقا آخر باعتبار أننا جميعا نعيش فى عالم الحيوان، ونسكن فى حديقة الحيوان، أى فى عالم مشترك وقرية صغيرة ووطن واحد، ونحيا بأدوات ووعى هذا العالم الذى هو من مخلوقات الله بالطبع، ومن ثم فالقصة تأتى بهذا السياق . وهذا الأداء التعبيرىوهذا النمط الاستهلاكى السطحى التافه الذى قام منذ عقود على انقراض عالم البشر، وذوبان الإنسان مع الجليد، وعدم وجود آثار تدل على ظهوره يوما ما. وكما أشرت لم يقتصر الأمرعلى القصص المكتوبة بل تأمل-عزيزى القارئ-كم البرامج التلفزيونية والإذاعية التى تذاع صباحا وعصرا بعد ذهاب الأطفال الى المدرسة، وبعد عودتهم ووجودهم إما فى ساعات النوم او أداء الواجب، أما المدهش حقا أن القالب العام لهذه البرامج لا يخرج عن نمط مذيعة تمزج وتقلب كل مخارج الحروف بحجة أنها تخاطب الطفل فلابد أن تتكلم بلهجته، وهو نفس المنطق الهزيل الذى طبعت من أجله -فضلا عما سبق- عشرات من أفلام الكارتون والقصص والبرامج المختلفة، مسوخ تتحرك وتتكلم وتنصح من الشخصيات الكارتون او التى ترتدى الأقنعة وإذا تأملتها ستجد نفسك فى حيرة، هل هى تنتمى الى عالم الحيوان أم عالم البشر بل ماذا ستقول للطفل لو انه سأل عن هذا الأمر المريب. والعجيب وبالطبع من التلفزيون الى الإذاعة بنفس الوسيلة والأداء والمنطق من مقدم أو مقدمة البرنامج، والنتيجة هذه الأجيال التى لا تعرف فى عالمها سوى النملةوالأسد والفيل، وأننا لابد ألا نكذب لأن هناك سببا قويا يدفعنا للصدق وهو: أن الضفدعة عندما كذبت على الزرافة وادعت أنها تسير بسرعة لم تستطع فعل ذلك عندما اشتركت فى سباق الحديقة واكتشف الجميع كذبها!! ولأننا لابد أن نكون أقوياء مثل الأسد ملك الغابة وملك الحيوانات الذى يخاف منه الجميع فى الغابة -ولاحظ تكرار كلمة الغابة على مسمع الطفل عشرات المرات، ولا أدرى أين هذه الغابات فى مصر التى يشطح فيها خيال السادة المؤلفين من عشرات السنين بلا رادع! أيضا من سلسلة المنهج الراسخ فى وجدان وعقل الطفل المصرى أننا لابد ألا نسخر من أى واحد صاحبنا لأن الفيل "أبو زلومة" لما استهزأ بالنملة نام واستيقظ فوجد نفسه نملة! كيف لا أدرى صدقونى! ربما فى ظل غياب أمن الدولة وربما قبل الثورة وربما النظام السابق هو السبب، ولعلك تلحظ عزيزى القارئ أننى أستخدم اللغة العربية فى نقل الحوار، لأنه مما يضخم حجم الكارثة المتعلقة بعالم الحيوانات؛ الأداء الحوارى السطحى الركيك "الأبله" الذى نسمعه فى كل هذه المواد التى تقدم. أيضا من القيم النبيلة التى ترسخت فى عقل الطفل المصرى:عدم التكاسل وأداء الواجب وسرعة إنجاز المهام؟ لماذا لأن القرد عندما تراخى فى أداء واجبه وأبطأ فى عملية إلتقاط الموز من على الشجرة جاء الفيل -لاتنسوا ابو زلومة- بسرعة وتناول الموز، وأرجو التخلص تماما من الأسئلة التى يغلب عليها الطابع العلمى فى هذه القصص جميعا، لأنك عزيزى القارئ مطالب بتصديق كل ما يدور فى هذا العالم القصصى الحيوانى الغريب والمثير وغير العقلى او المنطقى لأن المؤلف "عايز كده". وإذا حدث -وهو بالتأكيد لن يحدث -ووجدت طفلك فجأة على غير عادة أقرانه،عندما أصابته نوبة نباهة فجائية وألقى بتساؤل من نوعية: وكيف صعد الفيل بضخامته المعروفة على الشجرة ليخطف الموز من القرد؟ فما عليك عزيزى القارئ سوى أن تجيبه على هذا التساؤل المنطقى العلمى بإجابة علمية منطقية أيضا وهى-وهذه مساعدة منى لوجه الله ومن فرج عن مؤمن كربة...: أن الفيل يا حبيبى او حبيبتى قبل أن يصعد الشجرة قام بعمل "دايت" مدة زمنية، وقام بعملية شفط دهون فى مستشفى استثمارى "كبييييير" يتبع حديق الحيوان فضلا عن تمارين "ايروبكس" صباحا كل يوم وخوفا من أن تلفت جملة مستشفى استثمارى نظر ابنك اكثر من جوهر الموضوع نفسه. ولعله يطلب منك مثلا اجراء عملية "اللوز" بالمستشفى "الكبييييير" لا لأن الولد لديه خلفية عن هذه المستشفيات بالطبع وإنما فقط علشان الفيل "عمل العملية فيه واستطاع بعد ذلك تحقيق هدفه" فعليك بسرعة أن تتدارك الأمر قائلا ولكن العملية لم تنجح نجاحا كاملا فقد عانى الفيل متاعب عدة،وبالطبع سيعاود سؤالك مرة أخرى: كيف إذن صعد على الشجرة؟ أما اذا ازدادت نوبة النباهة فجأة مرة أخرى لتجد سؤالا آخر من صلب الموضوع-وسامح الله المؤلفين-: وهل الفيل يا بابا بياكل الموز أصلا؟ فما عليك مرة أخرى سوى أن تجيبه نعم هو لا يأكل الموز ولكنه سمع من أصدقائه الحيوانات عن فوائد الموزفأراد أن يتذوقه! وهكذا ستجد أن حمى البلاهة والسطحية والهبل قد أصابتك فجأة من جراء مئات القصص والحواديت والحكايات التى فرضت على عالمنا العربى منذ عشرات السنين، وستجد أن عقلك يتجاوب تلقائيا مع أحداث قصص عالم الحيوان وستفكر بتلقائية أيضا مع أحداثها،وربما تسهر الليل كله وأنت تتحاور مع طفلك عن قضايا مصيرية خطيرة: كيف أن النملة تحولت فجأة إلى أسد، والقرد إلى زرافة، بل ستتعاطف كذلك مع البطة المريضة التى طلبت من الفيل طعاما فأبى الفيل أن يعطيها قطعة من البرجرإلا بعد أن تمضى ايصال أمانة!. وربما تشترك الأسرة جميعها فى حل لغز الأرنب الذى اختبأ وراء الشجرة الكبيرة ليراقب النمر وهو يأكل اللحوم بعيدا عن أعين الناظرين،وبرغم حرصه الشديد وكتمانه الأشد الا أنه اكتشف أن ثمة قطعة من "البفتيك" اختفت فجأة والسؤال هو والجائزة "كبييييرة" كيف اختفت قطعة البفتيك من ملك الغابة؟ولماذا اختفت أصلا ،وهل أخذها-بدلا من سرقها- الأرنب فعلا أم لا؟ والسؤال الأهم من كل هذا: هل علمت صحف المعارضة وبرامج التوك شو بهذ السبق الخطير أم لا؟ ثم السؤال العبقرى: لماذا وجدنا أنفسنا فجأة نعانى جميعا تخلفا عقليا ليس له علاج أو دواء بفضل السادة المؤلفين والقائمين على برامج الأطفال فى العصر الحديث الذين لم يروا فى هذه الحياة التى خلقنا فيها من أجل عبادة الله تعالى وحده وإعمار الأرض بالخير، لم يروا سوى الحيوان ليستنطقوه، ويتحاوروا معه ويخاطبونه ويحادثونه ويجادلونه ويدخلون معه وحده فى حلقات نقاش مستمرة متصلة والأهم أنهم يجعلونه القائد والمرشد والمعلم الذى يلقى علينا جميعا مبادئه وقيمه وأخلاقه وتجاربه وسلوكه حول الصبر والتعاون والكرم والحب والمودة..ألا يوجد فى هذا العالم الفسيح والكون الشاسع شيئا آخر يسمى -مثلا- الإنسان الذى كرمه الله على سائر مخلوقاته، ومن ثم فهو جدير بالتحاور والتخاطب وإسداء النصح وتقديم الإرشاد!!. إننى أتوجه بتساؤل منطقى وفطرى يستقر فى عقل الطفل ولكنه غالبا لا يسأل اقتناعا بكل ما يقدم له من حواديت وقصص: وهل النملة تتكلم؟ وهل الفيل يتكلم مثلنا؟ إذا أجبت بنعم لطفلك، فإذن أنت تدعوه للكذب وتغيير حقائق الكون الثابت، وإذا أجبت بلا فهناك تساؤل بدهى من طفلك، فلماذا يتكلمون إذن فى القصة؟!! وإذا حاولت تلطيف الأجواء والخروج من المأزق بإجابة دبلوماسية وأجبته مبتسما: نعم هم لا يتكلمون فى الحقيقة ولكنهم يتكلمون فى القصة فسوف تدخل كذلك فى سلسلة اخرى من التساؤلات المنطقية لطفلك والتى ستجعلك فى النهاية تردد العبارة المشهورة: المؤلف -لا المخرج-عايز كده. اما لماذا أشرت قبل سطور من أن الطفل المصرى لن يسأل هذه الأسئلة أصلا، وإنما هى مجرد أسئلة افتراضية أو خيالية لطفل ما قد تتوسم فيه الذكاء فذلك لأن جميع الأطفال اليوم تربوا ونشأوا على هذه الحقيقة التى لا جدال فيها حتى مع أنفسهم وهى أن الأسد والزرافة والنملة والفيل يتكلمون، ولا أخفى عليكم بما إنى من أبناء عصر ماما سوزان كنت حتى وقت قريب أتابع هذا العالم وكنت أفرح لفرح النملة والفيل والزرافة و"أزعل لزعلهم" لأنى أستيقظ صباحا على حواديت "أبلة فضيلة وفيها ما فيها طبعا من أساطير وبطولات هذا العالم ،وعصرا أشاهد ماما نجوى وبابا ماجد وعددا اخر من آبائنا وامهاتنا -غير الأصلييين- فى الإذاعة والتلفزيون، المهم ان أغلب الاطفال تنشأوا على هذه الأشياء التى أصبحت لديهم حقائق ولم يحاولوا -كما لم يحاول الكبار- مراجعتها او النيل منها. كما نشأوا ايضا على ان الأرنب كان يعود الفيل فى مرضه -غير مقتنع ولكن كل شئ وارد-، والأسد فجأة أصابته نوبة حنية وأحب زملاءه فى الغابة وتعاون معهم من أجل تجهيز الغذاء وإحياء عملية السلام، وأن السلحفاة خلعت غطاءها لتستر به الزرافة من برد الشتاء!! فقط عندما وصل هؤلاء الى السن القانونى ادركوا ان هذا اللسان الناطق من صنع خيال المؤلفين، وهذا العقل المدبر والوجدان اليقظ الذى يجعل النملة تساعد الفيل والاسد يحنو على الزرافة ايضا من خيال المؤلفين الذين أرهقوا عقول الآباء والامهات فى التفكيروالقص والإجابة على تساؤلات الأطفال الذين قضوا عمرا مديدا وهم يستقون مفاهيم الإدراك والوعى من عالم الحيوان. والأهم انهم بعد ان وصلوا الى سن الشباب ادركوا ان نعمة الكلام والتفكير هى فقط للإنسان،وإن كنت اخشى ان يكون من بين شباب اليوم من لم يزل يصدق ما يحدث فى عالم الحيوان "الوهمى" وأن يكون مقتنعا بأن هؤلاء يتكلمون احسن من "عالم البشر" باعتبار اننا جيل ثان!وأن الفيل والنملة والأسد اخوة لنا أو أقارب وأنهم أعضاء فى الحزب الوطنى المنحل!!