من أجمل المشاهد التي أثرت في هي مشهد الشاب الفرنسي أبو عيون رزقا في فيلم المصير للراحل الكبير يوسف شاهين، وهو يصارع الأمواج العاتية بمركب صغير يحمل فيه كل ما تمكن أن يحمله من كتب العلامة والفيلسوف العربي الأندلسي ابن رشد، وذلك بعد أن تيقنوا جميعا من النية المبيتة لدى الخليفة، بإيعاز من تيار ديني متشدد لم يستوعب فكر هذا الفيلسوف الكبير. هذا المشهد كاشف ودال بوضوح على أهميه عمليه الترجمة في حفظ العلوم والمعارف، والتي هي بالضرورة ليست حكرا على بلاد معينة، فعلاقات التأثير والتأثر قديمة قدم الحضارة الإنسانية، وعملية الترجمة في القلب من هذه العلاقات دائما. هكذا يحدثنا التاريخ عن مكتبه الإسكندرية، والتي وإن كانت دمرت وحرقت، ولكن لا شك أن من تعلموا فيها لابد وأنهم نقلوا بعضا مما تعلموه إلى بلادهم، ولغاتهم الأصلية، لتظل شعلة الحضارة والعلم قائمة إلى أن تشرق شمس الإسلام على العالم، وتكون أولى كلمات الوحي للرسول الكريم (ص) هي اقرأ. و يجب علينا أن نفهم أن هذا الأمر الإلهي بالقراءة لا ينسحب فقط على قراءة العربية، بل يمتد ليشمل القراءة بأي لغة أخرى يمكن أن يتعلمها الإنسان. أي أننا مأمورون بتعلم اللغات وإتقانها، وهو الأمر الذي فطن إليه خلفاء كبار القامة والقيمة مثل هارون الرشيد وابنه الخليفة المأمون، الذي أنشا بيت الحكمة أو مكتبة بغداد، وكرم المترجمين وأغدق عليهم العطايا، ورفع من منزلتهم ونذكر منهم حنين بن أسحق العبادي، المتوفي في 873 م، والذي قام بترجمة جالينوس وأبقراط، وأيضا ثابت بن قرة، المتوفي في 901 م، والذي قام بترجمة إقليدس وأرخميدس وبطليموس. الملاحظة الأهم هي أن معظم هؤلاء كانوا من السريان والآراميين، الأمر الذي يعني انفتاح الحضارة الإسلامية على الجميع فى مرحله بنائها. ولهذا سيظل العالم يدين للحضارة الإسلامية بهذا المنجز الكبير، لأن الترجمات العربية للنصوص الإغريقية ظلت الشاهد الوحيد على الحضارة اليونانية، لأن الأصلية قد ضاعت. تخيل معي أيها القارئ العزيز لو كانت ضاعت ولم تحفظها الترجمات العربية؟. أدت هذه الترجمات إلى النهضة الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي، وجعلت اللغة العربية هي لغة العلم والثقافة في العصور الوسطى، لدرجة انه كان يحدث ما يحدث الآن في بعض بلادنا من محاوله البعض التميز بتعلم لغة المسلمين، وهو مانراه اليوم مع اللغة الإنجليزية. كانت الأندلس هي إحدى أكبر تجليات الحضارة الإسلامية، ولهذا نجد أن الإسبان لم يضيعوا فرصة التعلم من علوم المسلمين، ومرة أخرى تحافظ الترجمة على تراث عظيم كان من الممكن أن يضيع لولا الترجمات الإسبانية لعلوم العرب والمسلمين، وهي الحركة التي ظهرت في مدينة طليطلة، وأطلق عليها مدرسه طليطلة للمترجمين، والتي مرت بمرحلتين، هي مدرسة طلييطله الأولى ومدرسة طليطلة الثانية، والتي رعاها وأشرف عليها الملك الإسباني ألفونس العاشر، الملقب بالحكيم، والمتوفي عام 1284 والذي كان يعشق الحضارة الإسلامية. كانت الترجمات الإسبانية للتراث العلمي للعرب هي أحد أكبر الأسس التي قامت عليها نهضة أوروبا لاحقا، حتى في مجال الأدب، كان لكتب مثل كليله و دمنة وألف ليلة وليلة عظيم الأثر في تطور الكثير من الأجناس الأدبية في أوروبا، وخير دليل على ذلك هي رواية "دون كيخوته" لثربانتس. ولا نستطيع ونحن نعرض أهمية الترجمة، أن ننسى الجهد الجبار الذي بذله محمد علي باشا فى إنشاء مدرسه الألسن، وإرسال العديد من البعثات التي آتت ثمارها على يد العلامة رفاعة الطهطاوي، وتمكنت من تعريب الكثير من العلوم، الأمر الذي ساعد الأطباء المصريين في القضاء على العديد من الأوبئة التي كانت تفتك بالمصريين، وبالطبع لا يقتصر الأمر على المجال العلمي، ولكن يتعداه لجميع المجالات من الأدب إلى العمارة والفنون وعلوم الإدراة. ولكن ومع العرض السابق الذي أوضح أن عمليه الترجمة كانت القاسم المشترك في كل عمليات التحول الكبرى في التاريخ، نجد أننا اليوم متأخرين جدا في هذا المجال، لدرجه أن الإحصائيات تقول إن ما يترجم في بلد مثل إسبانيا سنويا يفوق ما يترجم في البلاد العربية مجتمعة. وإنه لمن المؤسف أن في مصر مركز يتبع وزاره الثقافة وهو المركز القومي للترجمة، والمنشأ منذ ما يزيد على 14 عامًا، وآخر الإحصائيات تقول إن عدد الكتب التى قام بترجمتها لا يزيد على 2000 كتاب، و هو رقم في رأيي الشخصي أكثر من هزيل، في بلد به العديد من كليات الألسن والآداب ومعاهد الترجمة. فهل المشكلة تكمن في التمويل أم فى بيروقراطية الموظفين.. أم لعدم إدراك الجميع أن الترجمة هي فرض كفاية على المجتمع.