حين ثار وهاج رئيس الوزراء التركى أردوغان على ثورة المصريين وعزلهم الرئيس الإخوانى محمد مرسى، التى تصاحبت زمنيا مع مظاهرات الأتراك ضد قرارات أردوغان بهدم حديقة جيزى بوسط إسطنبول وبناء مول تجارى على الطراز العثمانى، قال قولته المشهورة إن تركيا ليست مصر، فى حين انبرى بعض أنصار اللوبى الإخوانى التركى فى الصحافة المصرية بتفسير المواقف الأردوغانية الساخطة على مصر بأنها موجهة بالأساس للداخل التركى، وهدفها ألا يتصور أحد هناك خاصة فى الجيش التركى، أنه قادر على اتباع «الكتالوج المصرى» فى الثورة الشعبية التى تطيح بالحكام الفسدة والأفاقين، حتى إن أحد كبار الكتاب المصريين الموالين بقوة لتركيا، ومن قبل لإيران، وصف الأمر بأنه ناتج عن حساسية خاصة لدى الأتراك من الانقلابات العسكرية، وبالتالى فهو موقف لردع الجيش التركى قبل أى شىء آخر. وبعدها أخذ كثيرون من رجال الطابور الإخوانى التركى فى مصر يركزون على أن الجيش التركى تغير كثيرا فى السنوات العشر الماضية، وأنه أصبح الآن خارج المعادلة السياسية التى يتحكم فيها أردوغان بكل اقتدار حسب رؤيتهم آنذاك، وأن أى تحركات للجيش التركى ستكون بيد أردوغان نفسه، الذى قام بتغيير مادة فى الدستور حصرت تحركات الجيش فى أغراض حماية الحدود وبعد موافقة البرلمان التركى الذى يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان نفسه. كانت رسائل هذا الطابور الإخوانى محددة فى أن أردوغان وحزبه سيظلان صامدين فى وجه أية احتجاجات شعبية، وفى الآن نفسه سيظلان على موقفهما المعارض لثورة 30 يونيو المصرية. مثل هذه الرسائل كانت تعنى بشكل أو بآخر أن «الكتالوج المصرى» فى الثورة الشعبية هو عنصر قلق شديد لدى صانعى السياسة التركية، ولذا كان المطلوب هو إفشال هذا «الكتالوج المصرى» بأى شكل وبأى صورة كانت. والمعلومات المتوافرة والموثوقة حول الدعم التركى لتنظيم الإخوان الدولى واحتضان عناصر إخوانية وأخرى من الجماعات الإسلامية، التى مارست العنف والإرهاب منذ ثلاثة عقود، وإفساح المجال لها للتحرك السياسى والإعلامى ضد مصر وشعبها، وتحول إسطنبول إلى منصة عداء وتخريب وإرهاب سياسى وإعلامى للمصريين، فضلا عن تهريب شحنات من الأسلحة التركية للداخل المصرى، كلها وقائع معروفة للكافة ولا مجال للتشكيك فيها. والجديد هنا أن أزمة أردوغان وانكشاف فساد نظام حكمه على نطاق واسع وتورط ابنه مباشرة فى هذا الفساد العميق، أثبت كل المقولات التى طالما حذرنا منها وملخصها أن الأحزاب الأيديولوجية التى توظف الدين فى العمل السياسى هى الأكثر قابلية للفساد بكل معانيه وأبعاده والتى تمتد فى الاقتصاد والسياسة والثقافة والقضاء وكل ما يتعلق بالمجتمع والدولة معا، وهو فساد يقود مباشرة إلى تفكك المجتمعات وتقسيمها وانكشاف أمنها على نحو واسع. لقد سقط بالفعل النموذج التركى بالضربة القاضية، هذه النتيجة أصبحت غير قابلة للمناقشة. ومهما قيل عن أياد خارجية أو مؤامرات، فأسباب الفشل موجودة فى صلب النموذج نفسه. قد يجادل بعض أنصار أردوغان فى بعض التفاصيل ولكنهم حتما لن يستطيعوا أن يدافعوا عن نموذج طالما روجوا له فى السابق باعتباره نموذج الإسلام المعتدل الحاكم ذا الأيادى النظيفة والنفوس العفيفة صاحبة القيم الرفيعة. ما نراه فى تركيا الآن أثبت العكس تماما، فأردوغان وحزبه لا يمثلان الإسلام المعتدل بأى حال، وإلا لما تورطوا فى إثارة النعرات الدينية والطائفية كما هو الحال فى سوريا، ولا تسببوا فى كم هائل من القتل للسوريين، وسعيهم إلى استنساخ النموذج السورى فى مصر بعد 30 يونيو. أما ادعاءات الأيادى النظيفة فتفضحها علب الأحذية المملوءة بالأموال فى بيوت كبار المسئولين المقربين لأردوغان فضلا عن تورط ابنه مباشرة فى غسيل أموال وتهريب ذهب بالمليارات إلى إيران والحصول على عمولات بالملايين من مناقصات الإسكان العام التى تمولها الحكومة لصالح شركات خاصة، والأدهى هو التدخل السافر فى عمل القضاء ووقف التحقيقات وعدم تنفيذ الشرطة قرارات المدعى العام لضبط المتهمين، بل وتسريح عدد كبير من رجال الشرطة وقادتها نظرا لأنهم كشفوا فساد أردوغان ونخبته. وبينما يسقط هذا النموذج الأردوغانى الملوث سياسيا وأخلاقيا ودينيا، ينمو ويثبت نفسه «الكتالوج المصرى» النابع من إرادة شعب وتوافق نخبة كما حدث فى كتابة الدستور الجديد، لتحقيق التغيير الشامل وفرض الشفافية ومحاسبة المفسدين، وعزل المتورطين فى تخريب مصر والاستهانة بقدرها والساعين إلى توريطها فى مغامرات تركية وقطرية على حساب المصالح المصرية. والإثبات هنا ليس من عندى بل من الأمير تميم حاكم قطر الشاب، الذى كشف لوفد المعارضة السورية فى لقائه معهم قبل أسبوع عن اتفاقه مع السياسة الأمريكية فى السابق على إفساح الفرصة لنظام الإخوان فى مصر للتوطيد والتمكين، بينما كان أردوغان متسرعا وراغبا فى توريط مصر فى «الجهاد» بسوريا، وهو ما أقنع به الرئيس الإخوانى المعزول، الذى بدوره أعلن قطع العلاقات مع دمشق والجهاد فى سوريا فى اللقاء الشهير منتصف مايو الماضى. حديث الأمير تميم على هذا النحو لا يحتمل الجدل، فالولايات المتحدة كانت وراء حكم الإخوان وسعت إلى تمكينه بمساعدة وتنسيق مع قطر، بينما سعى أردوغان إلى توظيف وتوريط مصر الإخوانية لصالح مغامراته السياسية والعسكرية فى سوريا وغيرها. لكن إرادة المصريين أنهت كل هذا العبث، كما أنهت أيضاً أسطورة أردوغان. واللافت للنظر هنا أمران، الأول ما نشرته إحدى الصحف التركية بأن المخابرات المصرية كانت وراء كشف الفضائح السياسية والاقتصادية الأخيرة انتقاما من موقف أردوغان من الثورة المصرية، والثانى أن بعض الأتراك رفعوا العلم المصرى فى المظاهرات الأخيرة التى جرت فى أكثر من مدينة تركية طالبت أردوغان بالاستقالة وخضوعه للمحاسبة القضائية هو وابنه. ورغم أن الصحيفة التركية لم تنشر أية دلائل على دور المخابرات المصرية حسب زعمها، فإن الأمرين معا يؤكدان علو «الكتالوج المصرى» وتسربه إلى نفوس العديد من الأتراك باعتباره الطريق الذى لا بديل عنه لمواجهة الفاسدين والعابثين بمقدرات شعوبهم. قد يكون الأمر صعبا نسبيا فى ظل تسلط أردوغان وحزبه على البسطاء وفى المناطق الشعبية الفقيرة والبعيدة عن المدن الكبرى، ولكن من قال إن الشعوب الساعية لحريتها تعترف بالصعوبات؟ ومن يُرد الإجابة فليتأمل «الكتالوج المصرى» جيدا.