ضجيج السيارات العابرة يملأ فراغ المكان، حبات الرمال الصفراء تفوح منها رائحة الموت، على مرمى البصر وسط الصحراء، يرقد حطام «المينى باص» وبقايا أمتعة عشرات الضحايا الذين تساقطوا ما بين قتلى ومصابين مساء 18 نوفمبر الماضى، جراء تصادم القطار بهم أثناء عبورهم مزلقان دهشور. لافتة حديدية خلفيتها بيضاء اللون، مثبتة منذ أيام معدودة، على الجانب الأيمن للطريق الصحراوى «القاهرة - الفيوم»، تعلن عن «إنشاء كوبرى علوى على مزلقان دهشور» تقوم بتنفيذه شركة النيل للطرق والكبارى. مزلقان دهشور الذى يُعرف ب«مزلقان 25» فى سجلات واتصالات هيئة السكك الحديدية، يقع على خط السكة الحديد المخصص لقطار البضائع الذى ينقل خام الحديد من منطقة المناجم بالواحات البحرية إلى مصنع الحديد والصلب بحلوان، ولا يعرف العامل المخول له غلق الطريق أثناء عبور القطار، موعداً محدداً له كما يروى: «إحنا بنعرف إن القطر جاى لما بيوصل المحطة اللى قبلنا على طول»، فإذا كان القطار قادماً من الواحات يتم إخطار العامل بمجرد وصوله لمزلقان 36 الذى يقع قبل مزلقان دهشور مباشرة، بينما إذا كان قادما من حلوان يتم إخطار العامل أثناء قيام القطار من محطة الكيلو 12. يضيف العامل الأربعينى: «قبل الحادث كنا بنعرف إن القطر جاى من المحطة اللى قبلنا على طول، لكن دلوقتى بنعرف مباشرة من غرفة التحكم بالقاهرة». بعد مرور 40 يوماً على حادث تصادم قطار بضائع بسيارتى نقل وثالثة مينى باص، أسفر عن مصرع 27 شخصا وإصابة 36 آخرين «ظل كل شىء كما هو، لم يتغير، باستثناء لافتة وزارة النقل التى تعلن عن إنشاء كوبرى علوى»، هكذا وصف سعد منصور -أحد عمال كشك الكارتة الذى يبعد عن موقع الحادث 10 أمتار- حال المزلقان الذى يؤكد أنه لم يتغير، مضيفاً: «معدات الخلاطة وصلت منذ أيام، لكنها لم تعمل حتى الآن». عشرات الأمتار التى تخطوها بقدميك وسط الرمال بجوار قضبان السكة الحديدية بداية من الطبقة الأسفلتية تجاه السور الخلفى للمبنى الوحيد فى أرجاء المنطقة الصحراوية (معسكر الأمن المركزى)، نظراتك الخاطفة ترصد حطام المينى باص الراقدة فوق الرمال وآثار الدماء ما زالت عليها رغم الأتربة التى تكسو القطع الحديدية الباقية مما كان يطلق عليه «مينى باص»، فى مستقرها الذى دفعها إليه القطار ليلة الحادث، بينما تتناثر بقايا أمتعة ضحايا الحادث فى أرجاء المكان، كأن الحدث الذى وقع منذ أسابيع حدث بالأمس القريب. «فردة» حذاء حريمى سمراء اللون، وأخرى لكوتشى أبيض خاص بأحد الأطفال، تستكمل سيرك للأمام بخطوات قليلة تظهر أمامك قطع الملابس الممزقة التى تغوص أجزاء منها فى الرمال أجزاء منها، يقطع خلوتك مع بقايا الحادث وتفحص آثاره صوت أجش قادم من أحد أبراج المراقبة القابعة فوق سور معسكر الأمن المركزى، عسكرى يتولى عملية الحراسة، يصوب سلاحه تجاهك متسائلاً: «انت مين؟ وبتعمل إيه هنا؟»، مؤكدا رفضه وجود أى شخص فى المكان وفقاً للتعليمات الأمنية الصادرة له. المزلقان الذى شهد الحادث يبعد عن ميدان الرماية 15 كيلومتراً؛ حيث يقطع الطريق الصحراوى السريع بالقرب من مدينة 6 أكتوبر، وتتمدد القضبان الحديدية بطول 36 متراً وسط الطبقة الأسفلتية بعرض الطريق، الفراغات بين القضبان تملأها الأتربة المتراكمة، يعبر المزلقان يومياً عشرات المئات من السيارات النقل والملاكى والأجرة القادمة من القاهرة فى طريقها للفيوم وغيرها من محافظات الصعيد أو العودة منها إلى القاهرة. «هاعدى القطر وبعدين هاتكلم معاك».. كلمات يقولها عامل القطار بمجرد وصول إشارة صوتية عبر جهاز اتصال معدنى مثبت على أحد الجدران داخل غرفة عاملى المزلقان، نص الرسالة: «القطر تحرك من مزلقان 36 فى الطريق إليك» يرتدى العاملان «جاكيت» فوسفورى اللون، ويخرجان الواحد تلو الآخر من الغرفة، الأول يقف فى اتجاه السيارات القادمة من القاهرة، بينما الثانى فى اتجاه السيارات العائدة إليها، ينتظران دقائق معدودة، تبدأ أجهزة الإنذار بصوتها الضعيف فى إطلاق صافرات من على بعد مسافة لا تقل عن كيلومترين كما يحددها عامل المزلقان، لكنها لا تلفت انتباه العديد من سائقى السيارات كما يقولون، «صوت العربيات مغطى على صوت الإنذار اللى ما بيسمعش حد»، كلمات يقولها محمود سعدون، سائق سيارة أجرة، موضحا: «القطارات اللى بتمر من هنا قليلة جدا، الطريق عريض وما حدش بياخد باله». يظهر القطار على مرمى البصر، تستبق كلاكسات القطار وصوله، يهرول عاملا المزلقان، كل منهما يقبض بيده على مقدمة سلسلة حديدية يتجاوز طولها 18 متراً، يتسابق سائقو السيارات لعبور القضبان الحديدية قبل تمكن العامل من غلق الطريق، «مزلقان يودى السجن فى ثانية زى ما انت شايف كده».. هكذا عبر عامل المزلقان عن ضيقه من إصرار سائقى السيارات على العبور أثناء غلقه للمزلقان. يستقر جنزير الغلق (السلسلة الحديدية) على عمود حديدى فى الناحيتين لا يتجاوز ارتفاعه المتر ونصف المتر بمجرد إخطار العامل بقدوم القطار يهرول إلى تشبيكها يدوياً فى عمود آخر فى الجهة المقابلة، يبدأ العاملان بتفريغ الأتربة المتراكمة داخل مجرى القضبان باستخدام قطعة حديدية فى يد كلٍ منهما، بينما تتمدد الأسلاك ذات الوصلات المتكررة الخاصة بالأجهزة الضوئية والصوتية بدائية الصنع التى تعمل على المزلقان على سطح الأرض وفوق حبات الرمال، مما يعرضها للتلف فى أى لحظة، كما يقول عامل المزلقان، هذه الإشارات مثبتة على ثلاثة أعمدة أسطوانية الشكل، اثنتان منها على جانبى الطريق بينما الثالثة ترقد فى الجزيرة الوسطى بين اتجاهى الطريق، أنوارها الشاحبة ذات اللون الأحمر، وصفها محمد راشد، أحد قائدى سيارات الأجرة العابرة للطريق: «ضوؤها ضعيف زى اللمبة السهارى»، موضحاً أن عرض الشارع الكبير يتسبب فى عدم مشاهدتها، خصوصاً مع الأتربة التى تتراكم فوقها. غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 3 أمتار، مخصصة لعاملى المزلقان، يوجد بها سريران صغيران وجهاز اتصالات لاسلكى تم تركيبه مؤخراً بعد وقوع الحادث، كما يحكى العاملان، تجرى من خلاله الاتصالات بين عمال المزلقان والإدارة وكذلك زملاؤهم فى المحطات والمزلقانات الأخرى، كما تحتوى الغرفة على بعض المستلزمات المعيشية التى تتنوع ما بين أكواب الشاى والأطعمة البسيطة. «الناس اللى فى السجن دول مظلومين».. هكذا تحدث عامل المزلقان فى إشارة إلى زملائهم المحبوسين على ذمة القضية، مضيفاً أنه من الظلم أن يتحمل العامل البسيط أخطاء المسئولين والإهمال المتراكم خلال السنوات الماضية. ويصف العامل سائقى سيارات الأجرة والنقل بأنهم «بلطجية يرفضون الانتظار لكى أتمكن من غلق المزلقان»، على عكس ركاب السيارات الملاكى «بمجرد الإشارة لهم يقفون مباشرة مكانهم». بينما يقول أحمد سعد، أحد مهندسى شركة النيل للطرق والكبارى: إن الشركة تستعد الآن لإنشاء كوبرى علوى يعبر المزلقان، حتى تتمكن السيارات من عبور المزلقان دون أى تأثر بقدوم القطار، موضحاً أن الشركة الآن فى مرحلة التهيئة والتجهيزات لإنشاء الكوبرى، متوقعا أن تستغرق عمليات الإنشاء التى لم تبدأ بعد 6 أشهر إذا لم تظهر أى معوقات تعرقل عمليات الإنشاء.