يجلس على تلك الأرض الصلبة متخذا وضع القرفصاء، مُحاطًا بعيدان جريد النخل، يأخذ إحدى العيدان، ويضعها بين أصابع قدميه المستريحة على تلك القطعة الخشبية المستديرة المصنوعة من خشب الصفصاف والتي يطلق عليها "القورمة"، يحمل في يديه منجل حديدي ينهال به على ذلك العود الذي يُثبته بيده الأخرى، يسلخه من قشرته ليخرج من بين يديه ناعمًا ثم يقسمه لنصفين. تلك هي وظيفة عم "جمعة" منذ 65 عامًا وحتى الآن، الرجل المسن الذي يبلغ من العمر 71 عامًا، بدأ يعمل في هذه المهنة منذ أن كان فى السادسة من عمره، فمنذ أن شب على وجه الدنيا، ٌقدر له أن يكون الابن الأكبر لأسرة تتكون من 5 أفراد، كان والده يعمل "قفاصًا"، ولم يجد الابن البكري إلا مساعدة والدة في مهنته، كان لديهم محل صغير في منطقة باب الشعرية، ولكن "الإيجار الغالي" كان حائلا في استمرارهم العمل به: "قعدنا ندور على محل نأجره ملقناش غير في منطقة الملك الصالح.. أجرنا المحل واشتغلنا". منذ ولدته أمه، لم ينل "جمعة" حظه في أي شيء، فالفقر وقف حائلا أمام تعليمه وعمله المبكر مع والدة كان حائلا أمام التمتع بطفولته، رضى الرجل السبعيني بما قسم له الله، وتعود يوميًا على ارتداء جلبابه الفضفاض، واللعب بالعيدان الجريدية لصنع الأقفاص والكراسي، حتى جاء وقت استدعاؤه إلى الجيش، وكان ذلك عام 1964، ركب "جمعة" قطار الجيش وظل معه حتى عام 67، وبعد أن ترك "الجندية" اندلعت الحرب التي كانت نتيجتها نكسة.. غير أنه لم يشارك فيها حيث لم يتم استدعاؤه. في ذلك الوقت، كان "جمعة" وحيدًا فوالده الذي علمه أصول المهنة ذهب للقاء ربه، بينما تفرق هو وإخوته بسبب "مشاغل الدنيا"، لم يجد "القفاص" أمامه سوى البحث عن "بنت الحلال"، وجدها وتزوجها على الفور، وأصبحت تساعده فى عمله، تقوم بعمل الشاي، تأتي بأكل من البيت –القريب من المحل-، وانتقلت عدوى الحظ السيء من "القفاص" لأسرته الصغيرة: "إرادة الله إني مبخلفش.. بس أنا الحمد لله مبسوط وراضي بقسمة ربنا وزي ما ربنا بيقول في كتابه الكريم (ويجعل من يشاء عقيما)". لا يتعامل "جمعة" مع تجار ويعتبر صنعته (أعمال حرة)، فيديه وقدميه هي كل ما يلزمه لصناعة قفص فراخ أو كرسي جريدي: "مبستناش رزقي.. لأن دي حاجات متقسمة.. أهم شىء بس إن الواحد يعمل الحاجة اللى بيحبها ومادام مستورة.. يبقى الحمد لله".. ويُحمل "جمعة" الثورة جزء من مسئولية وقف الحال: "مكدبش عليك يا بني.. كل مدى الوضع بيسوء.. البلطجية كترت ومفيش حد بيحاسبهم". "صناعة الأقفاص" أصبحت على شفا حفرة من الانقراض –على حد قوله: "مش خايف من العطلة.. لأن رزقى مكتوب".. "حجة كبيرة إلى بيت الله" هي كل ما يتمناه "جمعة" في حياته: "بعد ما طلعت عمرة نفسي أحج أنا ومراتي وأزور الكعبة وأتبارك بمسجد الرسول".