هذا النقاش قرأته بالتزامن مع استكمالى دراسة عن الانتخابات الأمريكية، فنقلنى من القرن الواحد والعشرين إلى ظلام الوسطى. الحوار بدأ بثلاثة أسئلة وجهها أحد أتباع الدعوة السلفية للطبيب ياسر برهامى، فى موقع «أنا السلفى»، استفسر السائل فى أول سؤال عن حكم الخلافة العثمانية خاصة مع النص على وجوب أن يكون الخليفة من قريش، وفى الثانى يسأل عن حكم الخروج فى مظاهرات مضادة للحكم الحالى خاصة أن صديقاً للسائل أراد الخروج فى مظاهرات مضادة للسلطة الحاكمة الآن، وأخيراً ما حقيقة أن الفريق السيسى حاكم متغلب، ومدى شرعية نيله السمع والطاعة؟ السؤال الأول ربما يعكس نوعاً من الانفصال عن الواقع، فالمشغول بالبحث عن إمام قرشى يحكم المسلمين الآن ربما يحتاج إلى العلاج النفسى، أما السؤالان التاليان فعكسا سطوة التراث السلفى الحاضن للاستبداد، والمتجلى فى مواقف مرتبكة فى عصر الثورات0 لكن إجابات «برهامى» كانت كاشفة لعلل عديدة فى طرائق التفكير والوصول إلى الأحكام، وفسرت بشكل واضح كثيراً من مواقف حزب النور الحائرة، وربما قطعت لى على الأقل بأن الفكر السياسى السلفى لا يزال يحبو عند حدود الصحراء. قال «برهامى»: فالواجب أن يكون الخليفة من قريش؛ للحديث الصحيح عن النبى (صلى الله عليه وسلم): «لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِى قُرَيْشٍ مَا بَقِىَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ». متفق عليه. وقوله (صلى الله عليه وسلم): «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ». رواه أحمد، وصححه الألبانى. لكن قد يتغلب أحدٌ من غيرهم يكون قائماً بالدين، ويسوس الدنيا بالدين، «مع وجود الشوكة»، فتثبت له الولاية رغم فقده شرط القرشية ك«العثمانيين»، كما أن شرط العدالة هو الأصل، ولكن قد يتغلب فاسق؛ فإذا كان مقيماً للدين ويسوس الدنيا بالدين ثبتت ولايته للمصلحة الراجحة، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم): «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ أَسْوَدُ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا». رواه مسلم. وثبوت الولاية شرعاً أمر آخر غير توصيف الواقع، فلا بد من وجود ما ذكرنا من مقصد الإمامة، لثبوتها شرعاً. وإذا لم يوجد هذا الوصف وهو «يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ»، وهذا الذى ذكرنا من إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين مع وجود الشوكة - لم تثبت الإمامة. وأما وصف الأمر الواقع بأنه متغلب بالشوكة فهذا لا شك فى وجوده، وأما حق السمع والطاعة فهو لمن ثبتت إمامته شرعاً، ومَن لم تثبت إمامته شرعاً و«كان متغلباً» فالتعاون معه على البر والتقوى ومصلحة البلاد والعباد، والإجابة إلى الحق «هو المشروع». ثم أجاب «برهامى» عن السؤال الثالث بالقول: «قل لصاحبك ليقُل كلمة الحق دون أن يعرِّض نفسه وإخوانه وبلده لضياع الأرواح والأعراض والأموال». برأيى أن الإجابات حملت مجموعة من الدلالات، منها: 1- أن «برهامى» وقطاعاً عريضاً من السلفيين لا يزالون أسرى لاستخراج الأحكام عبر «عبادة ظاهر النص»، فحديث الإمام القرشى كنص صحيح يندرج تحت بند السنة القيادية، وهى قسم من السنة يمارس فيه النبى حقه فى القيادة فى المناحى الاجتماعية والسياسية، ولا يندرج تحت بند السنة التشريعية التى تتصل بشرح نص قرآنى تبين أحكامه، وتختلف بالمثل مع السنة الجِبِلِّيَّة، وهى الأشياء التى مارسها النبى بتأثير البيئة أو الجغرافيا، كحديث الذبابة. فالنص القرآنى يحث على المساواة بين المسلمين «وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ»، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا». كما أن تاريخ الصراع على السلطة فى فترة الخلافة الأولى يقول إن أياً من الصحابة لم يستخدم هذا النص «وجوب إمامة قريش»كمسوغ للإمامة، فبعد موت النبى رشح الأنصار فى المدينة سعد بن عبادة، وجرى اقتراح تعيين أميرين من المهاجرين والأنصار، حتى حسم عمر الخطاب الأمر لصالح أبى بكر، بعد ما يشبه الاعتداء البدنى على سعد بن عبادة، ولم يبايع ابن عبادة أبا بكر حتى مات على أطراف الشام. والبعض استنتج من المعارضة لبيعة أبى بكر تدشين مبدأ أن الإسلام يتيح المعارضة، لأن الحاكم اختيار للشعب وليس لله. 2- الحديث الثانى الذى ذكره، الخاص بالعبد الحبشى يتعارض مع فهم «برهامى» للحديث الأول، فهو يقر بإمكانية أن يتولى أمر المسلمين «عبدحبشى»، لكن هذا العبد الحبشى يلتزم بمعايير الحكم العادل الذى ذكرها الله فى كتابه وسنته، ولا يعنى أن العبدتولى بما يسميه فقهاء السلطان بالغلبة أو الشوكة. بل إن ترسيخ سيادة جنس على آخر كان سبباً فى ممارسات عنصرية بحق غير العرب فى عصر الدولة الأموية، ما ساهم بعد ذلك فى استيلاء العجم على خلافة بنى العباس، فكان الموالى يتوجب عليهم مساعدة العربى فى السوق بشكل وجوبى أقرب للاستعباد. والأمر لخصه الجاحظ بالقول إن دولة بنى العباس أعجمية خراسانية ودولة بنى أمية عربية أعرابية. 3- «أمر الحكم» برأيى لم يضع الإسلام له شروطاً تخرج عن النطاق، إنه أمر من أمور الدنيا، والدليل أن أبا بكر اختير ببيعة ضمن آخرين، بينما اختار المسلمون خليفته «عمر» بما يشبه الاستفتاء، وكان اختيار «عثمان» من بين ستة من الصحابة بينهم عبدالله بن عمر، لكن «لم يكن له من الأمر شىء» بحسب وصية أبيه، حتى حول معاوية بن أبى سفيان الخلافة إلى ملك عضود. 4- تحدث «برهامى» عن الخلافة العثمانية باعتبارها خلافة إسلامية لكن ينقصها «شرط القرشية»، وهنا تثار أسئلة جديرة بالإجابة عن مدى إسلامية خلع الخليفة العباسى المتوكل عنوة من مصر، وقتل أميرها طومان باى، بل خلع السلطان سليم الأول لأبيه «بايزيد»، وتلك الممارسات تنسحب بالطبع على مساوئ الخلافات السابقة، من قتل الحسن بن على بالسم إلى إحراق الكعبة فى عهد بنى أمية إلى فظائع «المأمون» على خلفية فتنة خلق القرآن، مروراً بفظائع «السفاح» وتورط أبوجعفر المنصور فى الاتصال ب«شارلمان» للتحريض على عبدالرحمن الداخل فى الأندلس. بل إن بعض فترات التاريخ الإسلامى ظهرت خلافات متزامنة، مثل الدولة العباسية فى العراق ومعها الدولة الأموية الثانية فى الأندلس، وفى دولة الأمويين الأولى كانت هناك خلافة عبدالله بن الزبير فى مكة، فأى منها خلافة الإسلام؟ 5- يتجاهل السلفيون -برأيى- أمر الدولة الحديثة، بصناديقها وخروج ناخبها الشرعى على الحاكم بالوسائل الديمقراطية، ما زالوا يحنُّون لعهود جُلد فيها «ابن حنبل» وأخفى «الماوردى» كتابه الأحكام السلطانية حتى مات، فالدولة الحالية فى نظرهم بعيدة عن الدين، ويتعاملون معها مضطرين. 6- حديثه عن «السيسى» يتضمن اعترافاً بأن ما حدث انقلاب وليس ثورة شعب قضت على الحكم الإخوانى واستجاب لها الجيش. كما يقر طرحه أن «السيسى» هو الحاكم وليس رئيس انتقالى يجهز مؤسسات الدولة لانتخاب حاكم جديد، ما يعنى أنهم سيكونون فى عون أى طاغية قادم عبر «الغلبة». مثل هذه الأطروحات حولت المسلمين إلى متجرعين للاستبداد أكثر من ألف سنة.