اتساع البحر منحها اتساع الأفق، ورحابة الشاطئ أعطتها رحابة الصدر، وتسامح رمال الشاطئ مع أصداف البحر وأمواجه جعلها تتسامح مع من يختلف معها، ويتسع عقلها وقلبها بحرية لكل الآراء. إنها بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن، الأستاذة الجامعية والباحثة والمفكرة والكاتبة. وُلدت فى مدينة دمياط بشمال دلتا مصر فى الخامس عشر من شهر نوفمبر عام 1913، وكان والدها عالماً أزهرياً، كما كان أجدادها من علماء الأزهر، تفتّحت مداركها على جلسات الفقه والأدب، ووفقاً للتقاليد الصارمة آنذاك، تعلمت عائشة عبدالرحمن فى المنزل، وحصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929 بترتيب الأولى على القطر المصرى كله. فى بداية الثلاثينات عملت عائشة بوظيفة كاتبة بكلية البنات بالجيزة، وبدأت تكتب فى الصحف وأرسلت إحدى قصائدها بعنوان (الحنين إلى دمياط) إلى مجلة النهضة النسائية، والتقت بصاحبة المجلة السيدة لبيبة أحمد التى ألحقتها بالعمل معها، وكانت تكتب مقالاتها وتوقعها باسم بنت الشاطئ، إشارة لطفولتها ولهوها صغيرة على شاطئ النيل فى بلدتها الجميلة دمياط، إذ كانت من أسرة محافظة، فلم تشأ أن توقع باسمها الحقيقى. فى تلك الفترة كانت عائشة تمارس هواية الكتابة، وتحمل عبء العمل فى كلية البنات، وعبء تحرير مجلة النهضة النسائية وإدارتها، وكانت علاقتها بالصحافة قد توطدت منذ أن نشرت «الأهرام»، أعرق الجرائد العربية، مقالتها عن الريف المصرى، وقضية الفلاح وضمتها «الأهرام» إلى أسرة تحريرها، فكانت ثانى امرأة تكتب بها بعد الأديبة مى زيادة. التحقت عائشة عبدالرحمن بجامعة القاهرة، لتتخرج فى كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1939، ثم تنال الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941، وفى الجامعة التقت عائشة بقمم الفكر والأدب، وتزوجت من أستاذها أمين الخولى، أحد قمم الفكر والثقافة آنذاك، وصاحب الصالون الأدبى والفكرى الشهير ب«مدرسة الأمناء»، وأنجبت ثلاثة أبناء. ظلت عائشة عبدالرحمن تواصل مسيرتها العلمية لتنال درجة الدكتوراه عام 1950، بإشراف عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين. أرادت عائشة أن يكون اهتمامها الأول مجال الدراسات الإسلامية فى بداية حياتها العلمية فنصحها أستاذها وزوجها أمين الخولى بأن تبدأ بدراسة الأدب، وتبحر فى محيط اللغة التى نزل بها القرآن الكريم، إذا أرادت أن تشتغل بتفسيره فاستجابت لنصيحته، وبدأت بالدراسات الأدبية، وقضت نحو عشرين عاماً ثم عادت للدراسات القرآنية والإسلامية. تدرّجت فى المناصب الجامعية من معيدة بقسم اللغة العربية فى آداب القاهرة، حتى أصبحت رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة عين شمس وأستاذاً زائراً بجامعات «أم درمان»و«الخرطوم» عام 1967، والجزائر عام 1968، وبيروت 1972، وجامعة الإمارات 1981، وكلية التربية للبنات فى الرياض. ترقّت عائشة عبدالرحمن فى المناصب الأكاديمية إلى أن أصبحت أستاذة للتفسير والدراسات العليا بكلية الشريعة جامعة القرويين بالمغرب، حيث قامت بالتدريس هناك لمدة عشرين عاماً. تركت بنت الشاطئ تراثاً علمياً كبيراً زاد على الأربعين كتاباً فى الدراسات الفقهية والأدبية والتاريخية، مثل: «التفسير البيانى للقرآن» و«القرآن وقضايا الإنسان» و«تراجم سيدات بيت النبوة».. تركت أيضاً فى الدراسات اللغوية والأدبية: «الحياة الإنسانية عند أبى العلاء المعرى» و«رسالة الغفران» و«لغتنا والحياة بين الماضى والحاضر» و«الخنساء الشاعرة العربية الأولى». سجلت عائشة عبدالرحمن جزءاً من مذكراتها فى كتابها الفريد «على الجسر»، وهو سيرة ذاتية تتذكر فيه طفولتها وصباها. حصلت بنت الشاطئ على جوائز وأوسمة متعددة منها جائزتان لمجمع اللغة العربية، الأولى عام 1950 فى تحقيق النصوص، والثانية فى القصة القصيرة عام 1953، وحصلت على وسام الكفاءة الفكرية من ملك المغرب عام 1967، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1973، وجائزة الدولة التقديرية عام 1978، وجائزة الآداب من الكويت عام 1988، وجائزة الملك فيصل عام 1994.. لم يتوقف عطاؤها العلمى والفكرى فكان آخر مقال تكتبه لجريدة الأهرام فى السادس والعشرين من شهر نوفمبر عام 1998، أى قبل رحيلها بأربعة أيام، إذ رحلت فى الأول من ديسمبر عام 1998، لتفقد مصر والأمة العربية شخصية نسائية فريدة قال عنها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل «إنها الوجه الإسلامى لمصر».. إنها بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن.